- نسرين حاطوم
- مراسلة بي بي سي لشؤون الخليج
تبعات الغزو الروسي لأوكرانيا لم تقتصر على هذين البلدين أو أوروبا فحسب، بل شملت مناطق أخرى في العالم، ولم تكن منطقة الخليج العربي بمنأى عن هذه التبعات.
الطاقة أولا… والحظ يحالف الأوروبيين خلال الشتاء
تعتبر روسيا أحد أكبر منتجي النفط والغاز في العالم، إذ تضخ نحو 10 في المئة من النفط العالمي، وبالتالي فإن أول مجالات التأثر كان في قطاع الطاقة ولاسيما بعد الاستغناء التدريجي عن الغاز الروسي الذي كان يسدّ نحو 40 في المئة من احتياجات الاتحاد الأوروبي من الغاز.
فقد لجأت دول الاتحاد الأوروبي ودول غربية أخرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرض ضغوطات على الاقتصاد الروسي لمعاقبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإجباره على وقف غزو بلاده لأوكرانيا.
وفي بدايات هذه الأزمة وحتى قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا بأسابيع، تحوّلت الأنظار إلى الغاز القطري المسال لمعرفة مدى قدرته على سد احتياجات أوروبا من الغاز، علماً أن لا بلد لوحده يمكنه أن يحل مكان الغاز الروسي، إضافة إلى أن الجانب القطري مرتبط أصلا بعقود آجلة مع دول آسيوية عدة.
فهذا البلد الخليجي الصغير في مساحته وعدد سكانه، يعدّ ضمن أكبر ثلاث دول مصدّرة للغاز في العالم وينتج سنويًا قرابة 77 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال، وسط توقعات بوصول قدرته الإنتاجية بحلول عام 2027 إلى 126 طن سنويًا، وذلك بعد الانتهاء من أعمال توسيع حقل الشمال، أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم.
وقبل أيام، خلال مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي، أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين أن دول الاتحاد ابتعدت عن الغاز الروسي ولجأت إلى تنويع مصادرها. كلام يتناغم مع بروز قطر ومعها الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان كدول خليجية تمكّنت من إبرام صفقات غاز مع دول أوروبية خلال العام المنصرم.
فألمانيا على سبيل المثال، ستحصل على مليوني طن من الغاز الطبيعي المسال سنويًا على مدى 15 عامًا ابتداءً من عام 2026، كما أبرمت في سبتمبر /أيلول الماضي خلال زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى أبو ظبي، اتفاقيات مع الإمارات العربية المتحدة لتزويدها بالغاز المسال والديزل.
وبحسب وكالة الأنباء الإماراتية، فإن الاتفاق ينص على تصدير شحنة غاز طبيعي مسال إلى ألمانيا خلال عامي 2022 و2023، كما ينص على توريد ما يصل إلى 250 ألف طن شهريا من وقود الديزل خلال العام الجاري 2023.
سلطنة عمان بدورها، وقّعت مع “توتال أنرجيز” الفرنسية وشركة “بي تي تي العامة المحدودة” التايلاندية في يناير/كانون الثاني الماضي، اتفاقيات لتوريد الغاز المسال بدءا من عام 2025 بإجمالي 1.6طن سنويا.
وفي مقابلة مع بي بي سي نيوز عربي، اعتبر كبير الباحثين المقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن حسين إيبيش، أن الدول الأوروبية كانت “محظوظة” هذا الشتاء بسبب عدم تعرضها لموجة برد قاسية إذ تمتعت نسبيًا بطقس شتوي معتدل، وهو ما لم يؤدِّ إلى أزمة طاقة كبيرة كان الجميع يتخوّف منها بعد قرار الاتحاد الأوروبي تقليص الإمدادات الروسية النفطية.
هذا عن الغاز، ولكن ماذا عن النفط؟
هل كانت الرياض على صواب في رفضها زيادة الإنتاج النفطي؟
قبل أيام على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت الرياض واضحة في قرارها المتعلق بزيادة الإنتاج، إذ رفضت دعوات البيت الأبيض بضخ وإنتاج مزيد من النفط.
واشنطن كانت تتخوّف من ارتفاع أسعار النفط، إذ وصل برميل النفط حينها إلى مستوى 100 دولار أمريكي. أما الرياض، فتمسّكت بالتزامها باتفاق تحالف “أوبك بلس” وقالت إنها لن تنتج أكثر مما تم الاتفاق عليه في إطار هذه المجموعة، والتي تقودها بشكل أو بآخر كلّ من الرياض وموسكو.
ثبات الرياض ووقوفها في وجه الولايات المتحدة الأمريكية جعلها تبدو كقوة إقليمية، بل عالمية في مجال الطاقة، لما لقراراتها من تأثيرات على أسعار النفط في العالم. الموقف السعودي كان يربط قراراته تلك بضرورة المحافظة على استقرار أسعار الأسواق العالمية للنفط وبمسألة الخضوع لمتطلبات العرض والطلب، رافضاً أي اتهامات بتسييس قراراته.
فقرارات أوبك “بلس” منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي بخفض الإنتاج النفطي مليوني برميل يوميًا خلافًا لرغبة واشنطن، فسّرته الإدارة الأمريكية على أنه عمل عدائي ضدّها.
وخرجت اتهامات أمريكية للرياض بأنها تدعم موسكو بالبترودولار، وطالب نواب ديمقراطيون في الكونغرس إعادة النظر في صفقات السلاح مع المملكة العربية السعودية كما لوّح آخرون أيضًا بإعادة إحياء قانون “نوبك NOPEC” الذي يسمح بمقاضاة أعضاء أوبك بتهم احتكار أسعار النفط والتحكّم بها.
صدرت مواقف خليجية رافضة للاتهامات الأمريكية، وأخرى عربية وإسلامية تضامنًا مع الموقف السعودي في “أوبك بلس”. هذا التوتر أعقبته زيارة تاريخية للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض التي حرصت على مراسم استقبال حافل للرئيس الصيني.
وخلال الزيارة التاريخية للرئيس الصيني، حرصت القيادة السعودية على أن تجمعه مع قادة العالم الخليجي والعربي على مدى ثلاثة أيام. عُقدت وقتها ثلاث قمم: صينية سعودية، صينية خليجية وصينية عربية أسفرت عن توقيع أكثر من 20 اتفاقية سعودية صينية بقيمة قاربت 30 مليار دولار أمريكي (أكثر من 110 مليارات ريال سعودي).
وعن هذا الموضوع يقول إيبيش لبي بي سي نيوز عربي إن الموقف السعودي فُهم في البيت الأبيض على أنه انحياز إلى جانب روسيا في غزوها لأوكرانيا ما أدى إلى توتر بين الجانبين السعودي والأمريكي، لكن ما لبث أن تبيّن لاحقًا أن السعودية كانت على صواب في قراراتها، إذ لم ترتفع الأسعار العالمية للنفط في نهاية المطاف وحافظت على استقرارها إلى حدّ ما.
وأضاف إيبيش: “هذا لا يمنع حدوث أي مواجهة مستقبلًا في حال حصلت أزمة طاقة جديدة … فجميع الاحتمالات باتت مطروحة على الطاولة”.
وقبل أيام، وخلال مشاركته في جلسة حوارية في المنتدى السعودي للإعلام، أكد وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان أن تحالف “أوبك بلس” يتّبع المرونة في اتخاذ قراراته، ما يسمح للتحالف بتغيير استراتيجيته لإنتاج النفط، في حال استدعت متطلبات السوق ذلك.
وقال الوزير السعودي إن القرارات التي اتخذها التحالف النفطي جاءت بناء على دراسات وتوقّعات صحيحة بعيدًا عن أي تجاذبات سياسية، لافتًا إلى أن صحفًا غربية هاجمت قرار “أوبك بلس” لكنها عادت وغيّرت موقفها في النهاية وأشادت بالقرار، بعد أن تبيّن أن التحالف كان محقًا.
هل انحازت دول الخليج إلى موسكو؟
لا شك أن العلاقة التي تربط السعودية ودولًا خليجية أخرى مع روسيا أقوى بكثير من تلك التي تجمع الدول الخليجية بأوكرانيا على الرغم من أن أوكرانيا وروسيا تعتبران من أكبر مصدري القمح للعالم (نحو 30 في المئة من صادرات القمح العالمية) ومن بينها دول مجلس التعاون الخليجي.
لكن لا شك أيضًا أن هذه الحرب وضعت دول مجلس التعاون الخليجي في موقف “حرج” كما وصفه حسين إيبيش.
ولكن وبالرغم من الموقف “المحرج” الذي وجدت دول الخليج نفسها فيه، إلا أن العلاقة مع موسكو تتخذ طابعًا مختلفًا، لاسيما فيما يخص المملكة العربية السعودية التي عمّقت علاقتها مع موسكو بشكل مضطرد بعد نشوء تحالف “أوبك بلس” عام 2016، وبعد الزيارة التاريخية للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى موسكو عام 2017.
زيارة اعتُبرت حينها رسالة إلى واشنطن التي كانت وقتئذ تحت إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، وذلك من خلال إظهار الرياض رغبتها في تنويع خياراتها الاستراتيجية مع القوى الكبرى في المنطقة وفي مقدمتها موسكو.
أمر آخر عنته هذه الزيارة، إذ كانت بداية التحالف الفعلي بين السعودية وروسيا في مجال النفط في إطار تحالف “أوبك بلس”، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، لم تصدر عن أي بلد خليجي إدانة للعمليات العسكرية الروسية، وهو ما فسّره كثيرون على أنه اصطفاف خليجي مع موسكو بسبب عدم إدانة الغزو الروسي.
ففي جلسة لمجلس الأمن في مارس/ آذار من العام الماضي، امتنعت أبو ظبي بصفتها عضو غير دائم في المجلس، عن التصويت لصالح قرار أمريكي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا.
الموقف الإماراتي تزامن مع صدور قرار أممي بطلب إماراتي ودعم روسي، يحظر إيصال الأسلحة إلى اليمن لدعم جماعة أنصار الله المعروفة باسم الحوثيين. هذان الموقفان اعتُبرا حينئذ دعمًا متبادلًا من الإمارات وروسيا لكليهما البعض، وتأييدًا إماراتيًا “تحت الطاولة” للغزو الروسي.
فالوجود الروسي في الإمارات متجذّر منذ سنوات بسبب عمل أكثر من 4000 شركة روسية وإقامة نحو 17 ألف روسي، إضافة إلى مئات آلاف الروس الذين يزورونها سنويًا بهدف السياحة. لكن الأرقام هذه شهدت ارتفاعًا ملفتًا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في ظلّ تقارير تحدّثت عن انتقال أموال الأوليغارش الروس إلى الإمارة الخليجية الصغيرة هربًا من العقوبات الدولية التي فرضها الغرب على جهات وشركات روسية داعمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ويشرح حسين إيبيش، كبير باحثين مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن كيف أن دبي تعتبر واحدة من الأماكن التي استثمر فيها الأوليغارش الروس أموالهم، وأيضًا المكان الذي لجأ إليه الروس الفارون من بوتين.
وأضاف: “على الإمارات العربية المتحدة التعامل مع هذا الأمر في مرحلة ما، وإذا استمرت الحرب خلال عام 2023، فسنشهد الكثير من الضغط على الإمارات العربية المتحدة وتحديدًا دبي، لحثها على التعاون مع العقوبات الدولية، والإنتربول، والتدقيق الجنائي، ووضع اليد على يخوت وعقارات يملكها الروس هناك”.
وعن السوق العقاري تحديدًا، يشير تقرير لشركة العقارات “بتر هومز” في دبي نشرته وكالة رويترز، إلى أن الروس من أكثر المشترين للعقارات السكنية في دبي وذلك بحثًا عن ملاذ آمن أو هربًا من الخدمة العسكرية.
وجاءت هذه “الهجمة” على السوق العقاري الإماراتي بمثابة حبل خلاص للدولة الإماراتية التي عانت من ركود في هذا القطاع منذ نحو سبع سنوات، زادت حدّته في السنتين الأخيرتين بسبب جائحة كورونا. فبحسب “بتر هومز”، قفزت مشتريات الروس بنحو 67 في المئة على أساس سنوي ومعظم الأثرياء الروس يفضّلون شراء العقارات الفخمة المطلّة على الشواطئ.
وعن هذا الموضوع، قال المحلل الاقتصادي والكاتب في صحيفة النهار العربي أحمد الخطيب، في مقابلة مع بي بي سي نيوز عربي، إن الإمارات بدأت بعد الجائحة الانفتاح على استراتيجيات جديدة بهدف خدمة اقتصادها ولاسيما في القطاع العقاري.
وأضاف: “بعد الحرب الروسية الأوكرانية، انتقلت أموال روسية إلى الإمارات التي كانت جاهزة من الناحية التشريعية لاستقطاب الأموال والمستثمرين”، لكنه استبعد في المقابل أن تؤثر الضغوط الأمريكية على الإمارات التي اختارت أن تكون على الحياد وألا تكون طرفًا مع أي جهة، وهو ما يفسّر بحسب الخطيب عدم لجوئها إلى تعديل تشريعاتها.
فبالنسبة إلى الإمارات، المستثمرون الروس كان مرحبًا بهم قبل الأزمة الروسية الأوكرانية وهم مرحّب بهم بعد الأزمة أيضًا.
بدوره، اعتبر إيبيش أن الدول الخليجية لا تعتبر هذه الحرب حربها، وتجاريها في ذلك بلدان كإسرائيل والهند ودول أفريقية أخرى قرّرت عدم إعادة هيكلة استراتيجيتها ومصالحها الوطنية خدمة لأهداف البيت الأبيض، ويضيف: “قوة الموقف الخليجي بعدم الخضوع للانحياز نابع من كون هذه الدول الخليجية قوى ذات تأثير إقليمي ولاسيما السعودية والإمارات وقطر”.
هذا الـ”حياد” الخليجي مكّن أبو ظبي والرياض من التوسّط في عملية تبادل أسرى بين موسكو وواشنطن في ديسمبر/كانون الأول الماضي بحسب بيان سعودي إماراتي مشترك.
عملية التبادل حصلت في مطار أبو ظبي وشملت لاعبة كرة السلة الأمريكية بريتني غرينر (تتهمها موسكو بحيازة مخدرات) ورجل الأعمال الروسي فيكتور بوت (تتهمه واشنطن بتجارة السلاح).
لكن البيت الأبيض نفى بشدة وجود أي وساطة خليجية في عملية التبادل تلك، إذ صرّحت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير أن الدولتين الوحيدتين اللتين تفاوضتا على هذه الصفقة كانتا الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وأضافت في إحاطة صحفية: “نحن ممتنون للإمارات لتسهيلها استخدام أراضيها لإجراء عملية التبادل”.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.