تينا ترنر… غنّت بفكٍّ مخلوع والدم يسيل في حلقها
في الأيام التي كانت تغطّي تينا ترنر عينيها بنظارات سوداء وتقف على المسرح لتغنّي، كان من الممكن أن تُخفي خلف تلك النظارات كدمةً أو جرحاً ما. فحياة المغنية الأميركية الراحلة لم تكن أضواءً ونجوماً وجوائز عالمية فحسب، لا سيّما خلال فترة بداياتها.
آيك ترنر، الذي اجتمعت فيه صفات الزوج والشريك الفني وأب الأولاد، خلّفَ كدمات لا تُحصى فوق جسد «ملكة الروك آند رول» وفي روحها. كابدت العنف المنزلي على مدى 16 عاماً، خرجت بعدها لتشقّ درب النجومية منتصرةً على جراحها. حدثَ ذلك في زمنٍ ما كانت تجرؤ النساء فيه على المجاهرة بما يتعرّضن له من أذيّة خلف الأبواب المغلقة، على أيدي شركائهنّ.
زفاف مبلّل بالدموع
كانت آنا ماي بولوك تلميذة في الـ16 من عمرها، ليلة التقت آيك ترنر في إحدى حانات ولاية ميسوري الأميركية. طار بها عزفُه إلى مكان آخر، حسبما تروي. أما هو فسحرَه صوتها حين سمعها تغنّي، ولم يكن منه إلا أن دعاها فوراً للانضمام إلى فرقته.
بين عامَي 1957 و1959 اكتفيا بصداقةٍ راقية وبشراكةٍ موسيقية أثمرت عن الثنائي «آيك وتينا ترنر»، وعن أولى أغانيهما معاً «A Fool in Love». اخترع لها اسماً ومنحها كنيته، في إشارةٍ مبكرة إلى ميوله للسيطرة والتملّك.
سرعان ما تحوّلت الصداقة إلى حب، وحملت ترنر بابنها الوحيد من آيك، روني الذي وُلد في أواخر عام 1960. كانت تينا لا تزال حاملاً عندما بدأت ملامح العنف تظهر جليّةً على شريكها. تجرّأت مرةً على القول له إنها لا تريد الاستمرار في العلاقة، فضربها على رأسها بنقّالة حذاء خشبية. تقول إن هذا الاعتداء الأول رسّخ الخوف فيها فقررت البقاء مع آيك.
الفنانة التي كبرت في بيتٍ كان الوالد يعنّف فيه الوالدة، ابتلعت آلامها النفسية والجسدية وتزوّجت من آيك عام 1962. تشرح في مذكّراتها أنها لم تستطع الرفض، «فبينهما 4 أولاد (روني و3 من زيجات سابقة) ومشروع فني مشترك». أما عن ليلة الزفاف فتروي كيف أنه أخذها إلى بيت دعارة، فيما كانت تشعر بالتعاسة وبأنها على شفير البكاء.
هربت بـ36 سنتاً في جَيبها
أمضت تينا ترنر أول 6 أعوام من الزواج تحت سطوة رجلٍ يضربها، ويخونها، ويتعاطى المخدّرات ثم يعتدي عليها جنسياً مرغماً إياها على إقامة علاقة معه. في مذكّراتها المنشورة عام 1986 تحت عنوان «I, Tina» (أنا، تينا)، كتبت: «رمى وجهي بالقهوة الساخنة متسبباً بحروق من الدرجة الثالثة. استخدم أنفي ككيس ملاكمة، إلى درجة أنني كنت أشعر بطعم الدم في حلقي خلال الغناء. حطّم فَكّي، وأكاد لا أذكر يوماً مضى من دون اسوداد حول عينيّ بسبب الكدمات».
لم يعرف الجمهور شيئاً عن جحيمٍ ما خلف الأبواب الموصدة. كل ما سمعَ كان أغنياتٍ ناجحة، وكل ما رأى كان ثنائياً جذّاباً يحصد الأمجاد والجوائز العالمية. وحتى عندما حاولت تينا ترنر الانتحار عام 1968، حصل ذلك بصمتٍ وبعيداً عن الإعلام. ابتلعت 50 قرصاً منوّماً قبل إحدى الحفلات، وبعدما استفاقت كئيبةً في المستشفى، حدّثت نفسها قائلةً: «كان الموت الطريق الوحيد، لكني خرجت من العتمة بقناعةِ أنني مصنوعة للبقاء».
أساءت ترنر تفسير استنتاجها هذا، فبقيت عالقةً داخل الزواج الدامي إلى أن حلّت تلك الليلة من عام 1976. كان الثنائي آيك – تينا متوجهاً من مطار دالاس إلى أحد فنادق المدينة، فبرّحها زوجها ضرباً طيلة الطريق في السيارة. ووفق ما تخبر مجلة «People»، فهي وصلت إلى الفندق «بوجهٍ منتفخ كوجه وحش».
مع 36 سنتاً في جيبها هربت تينا ترنر من الفندق، ما إن غفا آيك. ركضت على الطريق السريع بين السيارات وكادت شاحنة تدهسها، إلى أن وصلت بثيابها الملطّخة بالدم إلى أحد الفنادق، حيث وافق المدير على استقبالها. وفي اليوم التالي، باشرت ترنر بمعاملات الطلاق الذي أصبح رسمياً عام 1978.
نجمة متجددة في الـ40
مضت تينا ترنر حرّةً. شعرت بالفخر وبالقوّة بعد 16 عاماً من الذلّ والألم. لكنّ رحلة الحرية بدت شاقّة لامرأة لا تملك سوى صوتها. لجأت إلى بطاقات التموين للحصول على طعام، وعملت في تنظيف الفنادق لتأمين إيجار مسكنها وتسديد الديون. ثم أتت مقابلتها مع مجلة «People» عام 1981، لتشكّل نقطة تحوّل وتساعدها على النهوض من جديد.
كان لا بدّ من اعترافٍ بكلّ ما قاست خلال زواجها العنيف. وفي حقبةٍ سكتت خلالها النساء عن آلامهنّ، حملت أصواتهنّ لتسرد بعض الحكاية بجرأة: «كنت أعيش حياةَ موت. لم أخشَ من أن يقتلني بعد أن هربت، فأنا كنت ميتة أصلاً».
لم تُسقِط تينا عن اسمِها كنية آيك. هي تينا ترنر التي حلّقت شهباً في فضاء النجوميّة معه ومن دونه، ولعلّها شعّت أكثر بعد تحرّرها منه. بقوّة الموهبة والإصرار، فصلت هويّتها الفنية عن الإرث الذي حمّلها إياه. وبعد تردّد أصحاب شركات الإنتاج في تبنّيها كمغنية منفردة، نجحت في إقناعهم وجدّدت نجوميتها في أربعينها، مكرّسةً نفسها «ملكة الروك آند رول». ومع أغنيات مثل «What’s Love Got to Do with It»، و»The Best»، و»Private Dancer»، أكدت أنها قادرة على التحليق وحيدة.
حتى أيامها الأخيرة، لم تتخلّص تينا ترنر كلياً من ندوبها النفسية التي خلّفها زواجها العنيف، ولا من الكوابيس التي كانت تؤرق نومها. لكنها ومع رحيلها، أثبتت مرةً أخرى أنها ليست أيقونة موسيقية فحسب، بل ملهمة للنساء الساكتات عن آلامهنّ. وهي تركت لهنّ وصية في مذكّراتها حين كتبت: «إلى النساء العالقات في شرك علاقة مؤذية، أقول إنه لا شيء يمكن أن يكون أسوأ ممّا أنتنّ فيه الآن. إذا نهضتنّ ورحلتنّ، إذا انتفضتنّ من رمادكنّ، ستفتح لكنّ الحياة ذراعيها من جديد».
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.