خلال العام 2023 ساعدت عديد من العوامل المتزامنة في دعم مهمة البنوك المركزية من أجل تباطؤ معدلات التضخم بعد بلوغ ذروتها في 2022.. تشديد السياسة النقدية من بين تلك العوامل، علاوة على العوامل الأخرى ذات الصلة المرتبطة باستنفاد الطلب الكامن الذي تفجر بعد جائحة كورونا، علاوة على توقف الحكومات عن سياسات التيسير الكمي وضخ النقد في الأسواق لتحفيز الطلب بعد الجائحة.
وتتجه الأنظار حالياً إلى العام المقبل، الذي قد يشهد تغيراً طال انتظاره على مدى عامين من أجل خفض أسعار الفائدة -دون التسبب في ركود عنيف- إلا إذا كان لأي من العوامل الجيوسياسية رأي آخر من شأنه عودة ارتفاع الأسعار من جديد.
عوامل تباطؤ التضخم
كبير الاقتصاديين في شركة ACY المالية في أستراليا، نضال الشعار، يقول في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن ثمة خلافاً في التقييمات حول ما إذا كانت البنوك المركزية الكبرى ناجحة في كبح جماح التضخم -من خلال السياسات التي اتبعتها- من عدمه، مشيراً إلى أن القول بأن رفع معدلات الفائدة كان السبب “الأوحد” في تباطؤ الأسعار هو استنتاج مجتزأ وغير دقيق؛ لجهة وجود عدد من العوامل الأخرى التي ساعدت على هذا التباطؤ.
ويفسر ذلك بالإشارة بداية إلى منشأ التضخم منذ العام 2021 وذروته في 2022، والذي يعود إلى فترة جائحة كورونا، التي أدت إلى إحجام في الطلب الكلي وانخفاض في معدلات الاستهلاك، وهو ما خلق حالة من “الطلب الكامن”، والذي بدأ يتشكل على اعتبار أن أغلب المستهلكين بدأوا يؤجلون عمليات الشراء إلى أن تتحسن الأمور وتفتح ا لأسواق، وبالتالي عندما فتحت الأسواق كان هناك ضغط على الطلب، وبما تسبب في ارتفاع الأسعار.
السبب الثاني في ارتفاع معدلات التضخم ما يتعلق بسياسات التيسير الكمي التي اتبعتها الحكومات، والتي أدت إلى تحفيز الطلب أيضاً.
ويضيف: “وجد هذا النقد طريقه إلى الأسواق، من خلال عمليات الشراء والاستهلاك.. وكان هناك ضغط على مجمل الطلب”، موضحاً أن الولايات المتحدة لم تتوقف عن التيسير الكمي إلا في مراحل متأخرة.
وفي العام 2023 بدأت معدلات التضخم في التباطؤ، وهو ما يرجعه الشعار إلى استنفاد الطلب الكامن وتوقف الحكومات عن عمليات التيسير الكمي، وبالتالي فإن “القول بأن انخفاض التضخم بسبب سياسات رفع الفائدة هو استنتاج مجتزأ”.
وإلى ذلك، يتحدث كبير الاقتصاديين في شركة ACY المالية في أستراليا، عن توقعات العام 2024، قائلاً: “أتصور أننا انتهينا من مرحلة رفع أسعار الفائدة، وكذلك من مرحلة ارتفاعات المستوى العام للأسعار.. وبالتالي تبدأ البنوك المركزية في خفض الفائدة العام المقبل، إلا إذا حدثت عوامل جيوسياسية أثرت بدورها على ارتفاع أسعار الطاقة، وهو ما إن حدث سوف يؤثر في معدلات التضخم ويجبر البنوك المركزية على تثبيت الفائدة”، موضحاً أن “التوقعات حالياً تشير إلى أن النصف الثاني من العام سوف يشهد انخفاضات في أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الكبرى”.
اتجاهات الفيدرالي الأميركي
يشار إلى أنه منذ بداية دورة التشديد النقدي في مارس 2022، رفع الفيدرالي الأميركي الفائدة 11 مرّة (منهم 7 مرّات في العام 2022 و4 مرّات في 2023) بينما ثبتها أربع مرّات، من بينهم ثلاث مرات على التوالي، آخرهم الشهر الجاري، لتظل عند مستوى يتراوح بين 5.25 و5.5 بالمئة، وهو الأعلى منذ 22 عاما.
ولفت الفيدرالي في أحدث تقاريره في توقعات اقتصادية جديدة إلى أن التشديد التاريخي للسياسة النقدية الأميركية بلغ نهايته وأن تكاليف الاقتراض ستنخفض في 2024، حيث توقع انخفاضا بمقدار 75 نقطة أساس خلال العام المقبل. وفي بيان جديد عن السياسة النقدية، أولى مسؤولو المركزي الأمريكي عناية واضحة بحقيقة أن التضخم “تباطأ على مدى العام المنصرم”.
وتوقع 17 من أصل 19 مسؤولا بالمركزي الأميركي أن تنخفض أسعار الفائدة بحلول نهاية 2024 عما هي عليه الآن، ويشير متوسط التوقعات الحالي إلى تراجع أسعار الفائدة 0.75 نقطة مئوية من بين 5.25 و5.50 بالمئة حاليا.
ولا يتوقع أي من المسؤولين في الفيدرالي رفع أسعار الفائدة بحلول نهاية العام المقبل. لكن مع ذلك أكد رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول الأربعاء أن المركزي الأميركي لا ينوي “استبعاد” رفع معدل الفائدة أكثر. وقال في مؤتمر صحافي “نحن مستعدون لتشديد السياسة أكثر إذا كان الأمر مناسباً”.
خفض التضخم
المدير التنفيذي في شركة VI Markets”، أحمد معطي، يقول في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- عملياً وتبعاً للمستهدفات، البنوك المركزية الكبرى “لم تنجح في تحقيق أهدافها خلال العام 2023”.
- كان الهدف هو الوصول بمعدلات التضخم إلى المستويات المستهدفة عند 2 بالمئة، وهو ما لم يحدث.
- لكن النقطة المضيئة تتمثل في أن معدلات التضخم بدأت في التباطؤ خلال العام بشكل لافت، والاقتراب من الهدف.
- بعدما بلغت معدلات التضخم أكثر من 9بالمئة في الولايات المتحدة تباطأت إلى أن بلغت 3.1 بالمئة (في نوفمبر)، كذلك الحال في أوروبا بعدما كسرت الـ 9 بالمئة بلغت حالياً 2.4 بالمئة. وكذلك الحال بالنسبة لإنكلترا بعدما تجاوزت الـ 10 بالمئة في وقت سابق وصلت إلى 4.6 بالمئة.
وتبعاً لتلك المعطيات، يعتقد معطي بأنه من الممكن أن يشكل العام 2024 نقطة تحوّل في سياق تخفيض أسعار الفائدة، وهو ما ذكره بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الأربعاء الماضي، عندما توقع ثلاثة تخفيضات للفائدة خلال العام “وهو أمر لم يكن متوقعاً على لسان الفيدرالي، لا سيما وأنه لم يكن يذكر مسألة خفض الفائدة صراحة في الاجتماعات السابقة، وكان يشدد على أن التضخم راسخ”.
ويضيف: “من الواضح أيضاً أن البنوك المركزية الأخرى تنتظر اتجاهات الفيدرالي، بالتالي لو بدأ في خفض الفائدة سوف تحذو حذوه”.
لكن المدير التنفيذي في شركة VI Markets”، يلفت في هذا السياق إلى تصريحين، يتفق معهما إلى حد كبير، حذر أصحابهما من التعجل في خفض الفائدة، بما لذلك من تداعيات، على النحو التالي:
- مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغيفا، حذرت البنوك المركزية من خفض الفائدة بسرعة قبل أن تستطيع كبح جبح التضخم بقوة.. وأشارت إلى أنه في حالة خفض الفائدة ثم ارتفاع التضخم في 2024، لن يكون من السهولة بمكان السيطرة على معدلات التضخم، وبما يضطر البنوك المركزية لرفع الفائدة بشكل أكبر.
- رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك جون وليامز، قال إنه “لا زالنا نتحدث عن التثبيت ونتخوف من ارتفاع التضخم ونتحرك وفق البيانات”.
ويشدد معطي على أن ثمة مخاطر محتملة حال الاتجاه لخفض الفائدة بشكل سريع في 2024، لا سيما وأن مخاطر ارتفاع الأسعار لا تزال قائمة بشكل كبير، بما في ذلك المخاطر المرتبطة بالعوامل الجيوسياسية والمناوشات الحالية على سبيل المثال في البحر الأحمر، علاوة على الحرب في غزة والحرب في أوكرانيا، واحتمالات ارتفاع أسعار النفط، وغيرها من العوامل التي تدفع إلى ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم.
اختلافات حول موعد خفض الفائدة
وبينما تحدث الفيدرالي الأميركي بوضوح عن احتمالات الخفض في العام 2024، إلا أن البنوك المركزية الأخرى لم تحذو نفس الحذو.
وكان البنك المركزي الأوروبي قد على أسعار الفائدة ثابتة، في آخر اجتماعاته في 2023، لكنه لم يتحدث بوضوح عن تخفيف مقبل للتشدد النقدي في حين يسجل التضخم تراجعا حادا.
وبالتالي، تم الحفاظ على سعر الفائدة الرئيسي على الودائع وهو معيار للائتمان في منطقة اليورو، عند مستواه المرتفع تاريخيا والبالغ 4 بالمئة الذي وصل إليه في سبتمبر.
كما ترك البنك المركزي البريطاني سعر الفائدة الرئيسي دون تغيير عند 5.25 بالمئة، معتبرا أن الضغوط التضخمية مستمرة وأن أسعار الفائدة من المحتمل أن تظل مرتفعة “لفترة طويلة”.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.