على مياه بحيرة إينل الصافية في ولاية شان بدولة ميانمار، تقف مراكب صيد، إذ يجمع أصحابها أحياناً نباتات الأيلوديا المائية التي يستخدمونها في بساتينهم، وأحياناً ينصب هؤلاء الصيادون أقفاصاً لصيد السمك في مياه البحيرة.
ويصبغ الضباب تلال منطقة شان باللون الأزرق، وتنعكس صور هذه التلال على صفحة مياه بحيرة إينل في منظر بديع كان ذات يوم جاذباً للسياحة في ميانمار.
كان هذا في السابق، أما الآن فلم يعد هناك سائحون يقصدون ميانمار بعد أن وفد عليها وباء كوفيد ثم ضربها العنف الذي صاحب الانقلاب العسكري قبل عامين.
والتقى فريق بي بي سي في ميانمار مع مراكبيّ، قال إنه عضو في مجموعة إنثا العرقية المحلية. وأخبر المراكبيّ أعضاء الفريق أنهم أول زبائن أجانب يراهم منذ أكثر من ثلاث سنوات، وشكى المراكبي أنه لا يجد ما يطعم به أفراد أسرته.
ويشكو غيره من المراكبيين من انقطاع السياحة، مشيرين إلى اتجاه الكثيرين إلى الصيد في البحيرة مع قلة ما يحصلون عليه من أسماك.
ويحدق شبح الحرب الأهلية بميانمار بعد استخدام الجيش قوة مفرطة في قمع حشود المتظاهرين في الأسابيع التي أعقبت الانقلاب.
وعلى مسافة 100 كيلو متر إلى الجنوب، قام مسلحون من عرقية الكاريني ممن تصدّوا بقوة للانقلاب، بالعبور إلى ولاية شان حيث انضموا إلى ميليشا محلية تُعرف باسم “قوات الدفاع الشعبي” والتي تشكلت بالأساس على أيدي شباب محليين.
وفي يناير/كانون الثاني وقع صدام على مسافة ثلاثة كيلومترات من شاطئ بحيرة إينل، وكانت قوات الدفاع الشعبي أحد أطراف هذا الصدام.
وفي ذلك، يعبّر المراكبي لفريق بي بي سي عن قلقه العميق، قائلا:”اعتدنا على الحرية. ثم انتهى ذلك كله فجأة. والآن الشباب أصبحوا غاضبين إزاء الانقلاب”.
وقصد فريق بي بي سي بحيرة إينل، لأنها إحدى منطقتين اثنتين سمحت الحكومة العسكرية للفريق بزيارتهما، خارج المدينتين الرئيسيتين: يانغون ونايبيداو، المنعزلتين نسبياً عن أجواء الحرب الأهلية.
وتعدّ هذه أول تأشيرة دخول لميانمار تحصل عليها بي بي سي منذ الانقلاب. وقد حصلت عليها بي بي سي رسمياً لتغطية استعراض عسكري ضخم في يوم عيد القوات المسلحة. ونصّ تصريح الزيارة الذي حصل عليه الفريق على أنه من غير المسموح التحدث إلى أي مجموعات محظورة – وهذه المجموعات فئات كبيرة من الشعب في ميانمار هذه الأيام.
وفي ظل القوانين الجديدة، يُعاقَب كل مَن يعلّق بشكل سلبي على أداء الحكومة العسكرية – مَن إذن يعتبر آمنا ليتحدث إلى فريق البي بي سي؟ وماذا يمكنه أن يقول؟
ويتعذر على أي شخص عدم الإحساس بمدى التوتر في ميانمار، حتى في الأماكن التي يعتقد الجيش أنها آمنة لقواته. وفي الشوارع يحمل كل ضباط الشرطة تقريبا أسلحة أوتوماتيكية، ويستترون خلف أسوار من أكياس الرمال، وقد علموا جيدا مدى الخطر المحدق بهم. وعلى الطرق الطويلة تعترض رحلاتِ المسافرين نقاطُ تفتيش عسكرية كثيرة، يمكن اجتيازها أحيانا، وأحيانا لا.
وأدى انهيار السياحة إلى آثار كارثية على الاقتصاد المحلي في ميانمار. وبدا ذلك بوضوح على الفندق الذي نزل به فريق البي بي سي؛ والذي كان خالياً تقريبا من النزلاء، وكذلك الحال في فنادق أخرى كثيرة في الأحياء الرئيسية من مدينة نياونجشوي. ولم يكن ثمة كهرباء في المنطقة حتى اضطر أصحاب الفندق إلى استخدام المولدات في المساء.
وتوقف الفريق في مدينة ثان تونغ، حيث وقعت مصادمات يناير/كانون الثاني التي سبقت الإشارة إليها. وتصادف مرورنا مع يوم انعقاد السوق بالمدينة. ولم يرغب أحد من المتسوقين في التحدث إلى فريق البي بي سي عن تلك المصادمات؛ ولكن معظم الناس في المقابل أظهر رغبة في الشكوى من ارتفاع الأسعار ونُدرة المقبلين على الشراء.
وفي ورشة لصناعة المشغولات الفضية على شاطئ بحيرة إينل، كانت قوالب عرض المصوغات من وراء زجاج واجهات المحلات فارغة من المشغولات. لكن الناظر إلى داخل الورشة يستطيع أن يميّز صورة لزعيمة المعارضة السابقة أونغ سان سو تشي معلّقة على الجدار. وتحظى سو تشي بالولاء بين أبناء هذه المناطق في ميانمار.
يقول صاحب الورشة: “نحن لا نزال نحبها. وكلنا آسفون لما حدث معها”.
ولكن كيف أثّر كل ذلك الضيق الاقتصادي والتحدي الشعبي على الحكومة العسكرية؟ فيما يشبه قلعة حصينة في العاصمة نايبيداو، حيث يقيم قائد الانقلاب مين أونغ هلاينغ، يصعب الوقوف على مدى ذلك الأثر، بل إنه حتى يصعب الجزم بما إذا كان هذا القائد العسكري يعرف شيئا عن أحوال الشعب في ميانمار.
وفي الخطاب الذي ألقاه في الاستعراض العسكري احتفالا بعيد القوات المسلحة، لم يلمّح هلاينغ إلى ما يدل من قريب أو بعيد عن الآثار التي ترتبت على قراره الكارثي الخاص بالاستيلاء على الحكم عبر الانقلاب العسكري.
وإنما راح هلاينغ في خطابه يقصّ حكايات بطولات قديمة لا تخلو من الأساطير عن الجيش الذي يرجع إليه الفضل وحده في الحفاظ على وحدة ميانمار، على حد زعمه.
ويعاني القطاع المصرفي في ميانمار مشكلات جمّة. وتشهد العُملة المحلية فارقاً كبيرا بين قيمتها في السوق السوداء وقيمتها الرسمية.
وثمة هجمات متواترة تشهدها البلاد؛ وفي اليوم الذي وصل فيه فريق البي بي سي إلى يانغون، تعرّض محامي يعمل مع العكسريين للقتل رمياً بالرصاص.
وتعدّ المعارضة في ميانمار الآن أقوى وأكثر تسليحا من ذي قبل، مدفوعة في ذلك بجيل جديد من الشباب الساخط ممن سلبوه حريته وقوضوا آمالاً بُنيت صروحها في ظل عشرية ديمقراطية عاشتها ميانمار قبل الانقلاب العسكري الأخير.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.