ورغم الزيارات المتبادلة التي قام بها مسؤولون من البلدين في الأشهر الأخيرة، والتي أعطت انطباعاً بإمكانية حدوث انفراجة، في مسار “المواجهة” الذي أصبح مألوفاً بين الطرفين في الأعوام الأخيرة، إلا أن ما يحصل على أرض الواقع، يدحض جميع هذه الآمال وينذر بتصعيد جديد، قد ينقل “المعركة” الأميركية الصينية إلى مستويات محتدمة غير مسبوقة.
ففي الأيام الأخيرة دخل ملف ساخن جديد دائرة الصراع الصيني الأميركي، حيث فرضت بكين قيوداً على صادرات مادة “الغرافيت” من البلاد، في رسالة تحذيرية تريد من خلالها الصين القول لأميركا والعالم، أنها أكثر استعداداً لتوسيع خطوط الصراع دفاعاً عن مصالحها.
وقد أعلنت وزارة التجارة الصينية أنه اعتباراً من الأول من ديسمبر 2023، يجب على منتجي “الغرافيت” عالي الجودة في البلاد، الحصول على ترخيص، في حال أرادوا تصدير منتجاتهم إلى عملاء أجانب خارج الصين، لافتة إلى أن هذه الخطوة ضرورية لحماية الأمن القومي.
ويأتي هذا الإجراء الصيني كرد حازم، على قيام إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في شهر أكتوبر 2023، بتشديد ضوابط تصدير الرقائق الأميركية إلى الصين، لتشمل الرقائق “الأقل تقدماً”، بعد أن كانت تطال فقط الرقائق “فائقة التطور”، وهو الأمر الذي ترى فيه الولايات المتحدة الأميركية، أنه سيساعد في منع حدوث المزيد من المفاجآت الشبيهة بمفاجأة هواوي، التي كشفت عن هاتف يحتوي على رقاقة متطورة من صنعها وقادرة على دعم الذكاء الاصطناعي.
ففي أكتوبر من عام 2022 فرضت الولايات المتحدة ضوابط صارمة، على تصدير الرقائق المتطورة المستخدمة في تطوير الذكاء الاصطناعي إلى الكيانات الصينية، لتتفاجأ واشنطن في صيف 2023، بقدرة هواوي على إنتاج معالج متطور بدقة 7 نانوميتر.
وتشك أميركا بأن هواوي تمكنت وببراعة، من دمج العديد من الرقائق “الأقل تقدماً” مع بعضها، لإنتاج رقاقة قوية، ولذلك ترى أن الخطوة الجديدة بمنع وصول الرقائق “الأقل تقدماً” إلى الصين، كفيلة بإغلاق الثغرة التي تم استغلالها من قبل هواوي.
ولجوء الصين إلى استخدام سلاح مادة “الغرافيت” في حربها الاقتصادية والتكنولوجية مع أميركا والغرب يعد تصعيداً كبيراً، فهذه “المادة الرمادية” بالغة الأهمية في العصر الحالي، قامت بكين باختبار استخدامها كسلاح اقتصادي بدءاً من عام 2020، بعد خلاف دبلوماسي لها مع السويد، فمنعت الشركات الصينية من بيع “الغرافيت” للشركات هناك، الأمر الذي أثر سلباً على مسار تطوير التقنيات الخضراء في البلد الأوروبي.
ما هي مادة الغرافيت ولماذا تستخدم؟
الغرافيت أو “المادة الرمادية” نظراً للونها، هي مادة تتشكل طبيعياً من الكربون، وتعد موصلاً جيداً للحرارة والكهرباء، ما يجعلها مفيدة في المنتجات الإلكترونية، مثل الأقطاب الكهربائية والبطاريات والألواح الشمسية.
وتتكون مادة الغرافيت من طبقات متراصة فوق بعضها، وهي موجودة في باطن الأرض في الصخور النارية والصخور المتحولة، وتحولت في الآونة الأخيرة إلى مادة استراتيجية ناشئة، لا غنى عنها في تطوير الصناعات العسكرية والمفاعلات النووية وإنتاج بطاريات الليثيوم، وبطاريات تخزين طاقة الرياح، وإنتاج الخلايا الشمسية.
كما ويتم استخدام الغرافيت ومنتجاته على نطاق واسع، في صناعة الأقمار الصناعية والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر اللوحية، والمركبات الهجينة والمركبات الكهربائية والمستشعرات، وغيرها الكثير من المكونات الكهربائية.
ويستخرج الغرافيت من عدة دول، أهمها الصين والهند وكوريا الشمالية والبرازيل وكندا، ولكن الصين هي من تقود سوق الغرافيت في العالم، وبفارق كبير عن أقرب منافسيها، حيث أظهرت إحصاءات شركة “ستاتيستا” للأبحاث، أن إجمالي حجم الإنتاج العالمي من الغرافيت في عام 2022، بلغ نحو 1.3 مليون طن متري، منها 850 ألف طن تم انتاجها في الصين، في حين كانت الموزمبيق ثاني أكبر دولة في قائمة أكبر منتجي “المادة الرمادية”، مع إنتاجها لـ 170 ألف طن متري.
كما تظهر الأرقام أن الغرافيت الصيني يستحوذ على أعلى حصة من واردات الولايات المتحدة من هذه المادة، بنسبة تفوق الـ 33 بالمئة وذلك بحسب البيانات العائدة للأعوام الممتدة من 2018 وحتى 2021.
قيمة سوق الغرافيت
ورغم أن مستويات الإنتاج العالمي من الغرافيت ظلت مستقرة إلى حد ما، خلال العقد الماضي، فمن المتوقع أن يزداد الطلب على هذه المادة خلال السنوات المقبلة، بسبب الطلب المتزايد من قبل صناعة السيارات الكهربائية، فالغرافيت عنصر أساسي في صنع بطاريات الليثيوم أيون، التي تعمل من خلالها السيارات الكهربائية، وهذا ما سيؤدي إلى ارتفاع القيمة السوقية العالمية لسوق للجرافيت من نحو 23.7 مليار دولار أميركي عام 2022، إلى 38 مليار دولار أميركي في عام 2028.
ويقول الخبير الاقتصادي محمد الحسن في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن لجوء الصين مرة جديدة، إلى خيار تقييد صادرات مادة صناعية مهمة، يدل على أن هذا الأسلوب بات السلاح المفضل لبكين في حربها متعددة الأوجه مع واشنطن، مشيراً إلى أن اختيار مادة الغرافيت الاستراتيجية رسالة واضحة لأميركا، بأن الصين مستعدة لرفع سقف التحدي، عبر أخذ الأمور الى مستويات جديدة من التوتر على صعيد الصناعة العالمية.
ولفت الحسن إلى أن الصين لم تلجأ إلى خيار فرض حظر شامل على تصدير الغرافيت، بل هي قامت بربط هذه العملية بشرط الحصول على ترخيص منها، ما يسمح للسلطات في البلاد باستهداف المشترين كما يحلو لها، فإذا قامت أميركا أو غيرها من الدول بمزيد من الخطوات العدائية تجاه الصين، فسيتم الرد بحرمان هذه الدول من صادرات مادة الغرافيت، التي باتت ركيزة أساسية في تصنيع المنتجات من سيارات وهواتف وأدوات إلكترونية.
وبحسب الحسن فإن الصين استخدمت سلاح “تقييد التصدير” في شهر أغسطس 2023، عندما ربطت إمكانية تصدير معدني الغاليوم والجرمانيوم المهمين في صناعة الرقائق، بالحصول على رخصة من السلطات، ولكن القيود الجديدة على مادة الغرافيت ستكون ارتداداتها أوسع بكثير، إذ أن أي تأخير في حصول دولة ما على هذه المادة، ستكون انعكساته كبيرة لدرجة أنها قد تعرقل سلاسل التصنيع العالمية في العديد من الصناعات المهمة، كما انها ستعرقل مسار انتقال العالم إلى منتجات الطاقة النظيفة، التي تعتمد بشكل كبير على الغرافيت.
وكشف الحسن أن المحللين رأوا أن الخطوة التي قامت بها الصين، بمثابة تحذير أحمر اللون لصناعة السيارات الكهربائية في العالم، معتبراً أنه من الخطأ حصر ارتدادات هذه الخطوة بصناعة السيارات الكهربائية، فمادة الغرافيت باتت جزءاً لا يتجزأ من عالم صناعي كامل، يشمل مختلف الأدوات الكهربائية، ولذلك فإنه يجب اعتبار الخطوة الصينية كتنبيه أحمر اللون للعالم أجمع، وإنذار بأن تفاقم “حالة العداء” بين قوتين عظمييْن، ستجعل الجميع يدفع ثمناً باهظاً، ويضع صناعات عالمية مختلفة على حافة الهاوية.
من جهته يشرح مهندس الكهرباء حسن الدسوقي في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن هناك نوعين من مادة الغرافيت، الأول طبيعي والثاني اصطناعي، وفي حين يمكن استخراج الغرافيت الطبيعي من الأرض، فإن عملية إنتاج النوع الاصطناعي منه مكلفة، وتستهلك الكثير من الطاقة، ومضرة بالبيئة وهي مشكلة كبيرة من منظور بيئي، خاصة أن الغرافيت يتم استخدامه في التقنيات “الطاقة الخضراء”، التي تساهم في الحفاظ على البيئة، كاشفاً أن نحو 80 بالمئة من المعروض العالمي من الغرافيت الطبيعي والاصطناعي يأتي حالياً من الصين.
ويضيف الدسوقي أن القيود الأخيرة التي فرضتها الصين على صادرات الغرافيت، تشمل النوع الاصطناعي عالي النقاء والكثافة، والنوع الطبيعي، وهذا ما أدى إلى زيادة حالة عدم اليقين في سلسلة التوريد العالمية لهذه المادة عالية الحساسية، كونها تستخدم في نطاق واسع من الصناعات، مثل أشباه الموصلات والسيارات والفضاء وتصنيع البطاريات والمواد الكيميائية، لافتاً إلى أن اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة وأوروبا هي دول، تعد من أكبر المشترين للجرافيت الصيني الطبيعي والصناعي.
ويرى الدسوقي أن تقييد صادرات الغرافيت، هو هجوم صيني منسق له هدفان، الأول هو ردع أميركا عن فرضها المزيد من القيود على صناعة الرقائق الصينية، أما الهدف الثاني فهو ردع الإتحاد الأوروبي عن قرار فرض رسوم جمركية على السيارات الكهربائية الصينية الصنع، بحجة أنها تستفيد بشكل غير عادل من إعانات حكومتها، وذلك من خلال تذكير الاتحاد، بأنها تملك أحد أهم مفاتيح صناعة السيارات الكهربائية في العالم، كاشفاً أن صناع السياسات الصينيين، قرروا استخدام مواردهم الطبيعية كسلاح لا مصادر بديلة له حالياً.
وبحسب الدسوقي فإن الصين ليست الخيار الوحيد لمادة الغرافيت، فوفقاً لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية، تمتلك تركيا نحو 27.3 بالمئة من احتياطات هذه المادة، تتبعها البرازيل بحصة 22.4 بالمئة، ولكن تبقى المفارقة وكالعادة أن الصين تمتلك القدرة على استخراج هذه المواد الأولية بسرعة وكلفة أقل، وبالتالي فإن خيار استبدال الصين ممكن، ولكنه مكلف وبحاجة للكثير من الوقت، مشدداً على أنه لا يزال من غير الواضح، إلى أي مدى ستذهب الصين في قرار الحد من تصدير الغرافيت، ومع ذلك، بدأت أسعار المواد وحتى أسعار أسهم الشركات المتخصصة بانتاج الغرافيت، بتسجيل ارتفاعات خلال الأيام القليلة الماضية.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.