“لو كان ابني مجرما فلتحاكموه، وإن لم يكن كذلك فأفرجوا عنه. هذا هو شهر رمضان الرابع الذي يمر في غيابه، ولا نعلم متى سيخرج من السجن”.
هذا ما قالته عصمت، وهي والدة صياد مصري محبوس احتياطيا في مصر.
قبل نحو ثلاثة أعوام، قبض على ابنها محمد ياسين أثناء عودته من ليبيا. حيث كان يعمل رئيسا لأحد مراكب الصيد هناك، قبل أن يلحق به نحو 40 صيادا من نفس القرية، حيث تشتبه السلطات في تورطهم في عمليات تهريب أسلحة غربي ليبيا.
تعتبر أسر الصيادين هذه التهم بلا أدلة. ويتهم حقوقيون السلطات المصرية بما يصفونه بـ”استهداف الصيادين في محاولة لإحكام السيطرة على البحر المتوسط”، فيما ينفي مسؤولون هذه الاتهامات.
تطل قرية برج مغيزل التي ينتمي إليها الصيادون على البحر المتوسط شمالي مصر، وكذلك على فرع رشيد، أحد مصبي نهر النيل.
يعمل كثير من أبناء القرية في البحر، سواء في الصيد أو صناعة المراكب، ويسافرون أحيانا للصيد في دول مجاورة.
“حياتنا دمرت، ونحن في عز شبابنا”
كان محمد يعول زوجته وأمه وأطفالهما الثلاثة، قبل أن تقيد حريته. ومنذ القبض عليه، تدهور حال الأسرة.
تقول والدته عصمت “نريد مسؤولا رحيما ينظر لحالنا. نحن معدمون تماما، ونساء هؤلاء الصيادين كالأرامل وأطفالهم كاليتامى. كيف يكون حال الطفل عندما يذهب لمدرسته دون مصروف أو وجبة إفطار؟ الأطفال في سن يحتاجون لأبيهم”.
في غياب محمد، تحملت زوجته بسمة مسؤولية رعاية أطفالهما ووالدته المسنة، فضلا عن تجهيز احتياجاته في سجنه. تقول لبي بي سي “حياتنا تدمرت، ونحن في عز شبابنا. لم أعد قادرة على لعب دور الأب والأم معا”.
زادت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر من محنة الأسرة “دخلنا الشهري يبلغ 1500 جنيه (نحو 50 دولارا) أقترض ضعفي هذ المبلغ لسداد تكاليف زيارة واحدة له في سجنه. أزوره مرتين شهريا. بعت مصوغاتي ونصيبي في ميراثي من أبي لأنفق على الأسرة”.
لم يعد كثير من الأقارب قادرين على مساعدة أسرة محمد، وكما تقول بسمة “أهل الخير يساعدوني، لكن كل شخص صار يلبي احتياجاته بصعوبة. من ضيق الحال هذا العام، توقفت عن إعداد العصير مع وجبة الإفطار في رمضان”.
حتى عند حصول الأسرة على مساعدات مادية، يتأذى أبناء محمد نفسيا، فهم لم يعتادوا على تلقي التبرعات من أحد، كما تحكي بسمة.
40 أسرة في محنة
جرت العادة في تلك القرية كما هو الحال في غيرها من القرى المصرية، أن يتحمل الرجال مسؤولية الإنفاق المادي على الأسرة، أما النساء، فيتولين شؤون المنزل والأطفال.
التقينا نحو 20 من أسر الصيادين في منزل محمد ياسين، ولم يكدن يتوقفن عن البكاء بحرقة، عندما حكين لنا عن حالهن وحال أبنائهن.
منذ القبض على هؤلاء الصيادين، وجدت الزوجات والأبناء أنفسهم أمام خيارات ضيقة للإنفاق على الأسرة.
وتقول منصورة والدة صيادَين محبوسَين “عندما قبض على وَلَدَيّ كانا يبلغان من العمر 18 و19 سنة. أنا مريضة وأحتاج للعلاج وابنتي تحتاج مالا لتسد جوعها.. من أين آتي بالمال؟”.
بدأت هؤلاء النسوة العمل في تقطيع الخضروات، لكن المرض والتقدم بالسن يمنع بعضهن من ذلك.
كما أن طول انتظار عودة ذويهم، تسبب في تدهور الحالة الصحية لبعض أفراد الأسرة.
وتخشى عالية أن يفقد ابنها صاحب الأعوام الأربعة بصره، إذا لم يجر جراحة عاجلة، لا تملك ثمنها.
تسول وعمالة أطفال
في المقابل، اضطر ياسين (13 عاما)، الابن الأكبر لمحمد ياسين، للعمل في إحدى مقاهي القرية بعد انتهاء يومه الدراسي، ليدبر مصروفا شخصيا يبلغ 30 جنيها – أقل من دولار واحد – في اليوم.
وتقول أمه إنه يتعرض للتنمر من زملائه، عندما ينام من الإرهاق في صفه الدراسي.
الحال أشد قسوة على بعض أبناء باقي الصيادين الأربعين. وتقول هبة، وهي أم لـ 4 أبناء، إن ابنها الأكبر (11عاما)، ترك التعليم و”تشرد في الشوارع” ولجأ للعمل في مهنة الصيد لينفق على إخوته الثلاثة.
أما هي، تتسول لتنفق على البيت، “أنتظر أن يطرق أي أحد بابنا ليعطينا وجبة”.
مئات المشتبه بهم
يعتبر حقوقيون هذه القضية مثالا على “انتهاكات ممنهجة” ضد الصيادين، في إطار مواجهتها لتهريب البضائع والهجرة غير الشرعية.
وبحسب المدير التنفيذي لمنصة اللاجئين في مصر نور خليل، فإن “المنظور الأمني يجعل الشرطة تفكر بأن الهجرة تتم من خلال البحر. والصيادون هم من يعملون في البحر، لذا فهم أكثر الفئات استهدافا”.
ويقدر خليل أعداد المشتبه بهم في قضايا الهجرة والتهريب بالآلاف. ويقول إن مؤسسته وثقت نحو 120 قضية من هذا النوع خلال العامين الماضيين، لكن الأعداد الحقيقية أكبر بكثير، من كثرة أعداد الصيادين المحبوسين، تشترك أسرهم في استئجار حافلات جماعية لزيارتهم في السجون”.
وينتقد خليل السلطات المصرية أيضا بسبب ما يصفه ب”التوسع في الاشتباه بهم”، فضلا عن سلسلة من “الانتهاكات بحقهم” كحبسهم احتياطيا لفترات طويلة، وإعادة حبسهم بنفس التهم، كلما أخلت السلطات القضائية سبيلهم، وهي ممارسة تعرف “بالتدوير”.
“وثقنا تدوير بعض الصيادين نحو 9 مرات”، هكذا يقول خليل.
وتتشابه معاناة أسر الصيادين المحبوسين في المحافظات المختلفة. وتكررت الوقفات الاحتجاجية التي نظمها الأهالي. كما نشروا مقاطع مصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، استغاثوا فيها بالمسؤولين، وطالبوا بإطلاق سراح أبناءهم.
“ما دفع الأهالي لهذا الأمر هو أنهم استنفذوا كل الوسائل الأخرى. تلقوا وعودا بالإفراج عن ذويهم، لكنها لم تنفذ. ظروفهم المادية متدهورة، لدرجة أن بعضهم طالبوا الحكومة بالإنفاق على أطفالهم إذا لم يفرجوا عن ذويهم المحبوسين”، بحسب نور خليل.
وفي فبراير /شباط 2022، أصدر النائب العام قرارًا بمراجعة قضايا المتهمين في قضايا الهجرة والتهريب، بعد رصد شكاوى واستغاثات نشرتها أسر صيادين على مواقع التواصل الاجتماعي. ولم تعلن بعد نتائج هذه التحقيقات.
وبحسب عصام شيحة، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، فقد أحيلت بعض هذه القضايا بالفعل للمحاكم، والبعض الآخر ما زال قيد التحقيق. ويقول “طالما توافرت أدلة قاطعة على وقوع جريمة، على النيابة إحالة هذه القضايا للمحاكم مباشرة”.
شبح الهجرة غير النظامية
كانت مصر محطة انطلاق لمئات مراكب الهجرة غير النظامية نحو أوروبا، قبل أن تُحكم السلطات قبضتها على حدودها البحرية منذ عام 2016.
وتفتخر السلطات المصرية بعدم خروج أي مركب هجرة غير نظامية من مصر باتجاه أوروبا منذ ذلك الوقت.
وشهد البحر المتوسط حوادث غرق متكررة أودت بحياة مئات المهاجرين. وما يزال مهاجرون مصريون يصلون الحدود الأوروبية عبر البحر، لكن عبر حدود دولة مجاورة، أبرزها ليبيا.
ووفقا لوثيقة أصدرتها مفوضية الاتحاد الأوروبي العام الماضي، تم توقيف أكثر من 26 ألف مهاجر مصري على الحدود الليبية عام 2021، بينما رجحت خروج “تدفقات مكثفة” من المهاجرين على المدى المتوسط والطويل، بسبب ما وصفته بعدم الاستقرار الإقليمي وتغير المناخ ونقص الفرص الاقتصادية.
ويتساءل المدير التنفيذي لمنصة اللاجئين في مصر عن فعالية الإجراءات التي تتخذها مصر لمنع الهجرة غير النظامية.
“إذا كانت هذه الأعداد من المهاجرين المصريين تصل أوروبا، فهذا يعني أن هناك طرق جديدة للهجرة لم تستطع السلطات السيطرة عليها، أو أنها قبضت على الأشخاص الخطأ”، يقول نور خليل.
لكن عصام شيحة عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، يقول “مصر لا تستطيع منع أي مصري من السفر إلى ليبيا أو غيرها، لكنها استطاعت إغلاق حدودها البرية والبحرية، وضمنت عدم خروج أي مركب هجرة”.
وقعت مصر مؤخرا اتفاقا مع وفد الاتحاد الأوروبي في مصر لتطبيق برنامج لإدارة الحدود بقيمة 80 مليون يورو، لتعزيز التعاون بين الطرفين في إدارة الهجرة، يهدف إلى مساعدة السلطات المصرية في الحد من الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر على طول حدودها.
وانتقد حقوقيون ما اعتبروه غياب التفاصيل حول هذا الاتفاق، وعدم تحديد ضمانات للمساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان المحتملة بحق المهاجرين. ويعتبر خليل ما يحدث للصيادين، ثمرة لهذا التعاون المصري الأوروبي.
“لا خصومة للدولة مع الصيادين”
ينفي مسؤولون مصريون أن تكون إجراءات ضبط الحدود تمت عبر ما يوصف بـ”قمع” الصيادين.
ويعترف عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان بأن مشكلة الحبس الاحتياطي وما يعرف بتدوير المتهمين، ويعتبرها مشكلة عامة في مصر، وفي طريقها للحل.
ويقول شيحة: “ليس هناك خصومة بين الدولة والصيادين. نتحدث عن مخالفات قانونية ويجب أن تواجه مخالفاتهم بحسم. من الصعب أن أتعاطف مع مخالفين للقانون”.
كما ينفى أن يكون المجلس القومي لحقوق الإنسان قد تلقى شكاوى تخص الصيادين في هذا الإطار.
وكررت السلطات المصرية الإعلان عن نيتها إنهاء الحبس الاحتياطي طويل الأمد، لكن معارضيها يطالبونها بإسراع الخطى، نحو محاكمتهم عادلة أو إخلاء سبيلهم.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.