- تيسا وونغ
- مراسلة شؤون آسيا الرقمية
بدأت القصة بدعوة بسيطة: تعالوا للمشاركة في الحداد على القتلى.
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، كان الكثير من المواطنين الصينيين يشعرون بالحزن والغضب بعد انتشار أنباء الحريق المميت الذي شب في أحد المباني السكنية. بعد حوالي ثلاثة أعوام من الإغلاقات الصارمة وسياسة “صفر كوفيد”، لمست تلك الواقعة وترا حساسا وغاضبا.
وعبر تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل المشفرة في الصين، انتشرت دعوات بشكل عفوي للمشاركة في وقفة احتجاجية بالشموع. استجاب الآلاف للدعوة، ورفعوا أوراقا بيضاء وأخذوا يرددون شعارات تدين زعماءهم، وهو ما أدى إلى تحويل الوقفة إلى مظاهرات حاشدة.
ولم تكن مظاهرات الأوراق البيضاء في الصين بأي حال من الأحوال ظاهرة غريبة على المنطقة. فمن سريلانكا إلى تايلاند، شهدت القارة الآسيوية في الأعوام الأخيرة موجة من المظاهرات التي بدت وكأنها قد تفجرت بشكل مفاجئ وبدون مقدمات. بعضها انحسر وسط تراجع الاهتمام الشعبي، وبعضها تم إخماده بشكل سريع. وفي ميانمار، لا تزال هناك جيوب للمقاومة رغم سقوط البلاد في براثن حرب أهلية.
هذا ليس من قبيل الصدفة. فالمختصون يشيرون إلى ظاهرة عالمية أوسع نطاقا، تشير إلى أنه مع ازدياد المظاهرات شيوعا، ازداد كذلك احتمال فشلها.
والأكثر من ذلك هو أن الأداة التي أصبحت في غاية الأهمية في تقوية تلك المظاهرات – التكنولوجيا الحديثة – هي أيضا التي عرقلتها.
البيانات التي جمعتها مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي منذ عام 2017 توضح أن المظاهرات المناهضة للحكومات شهدت ارتفاعا منتظما في مختلف أنحاء العالم وبلغت ذروتها في عام 2022.
لكن العام الماضي أيضا كان العام الأقل نجاحا للمظاهرات، وفق تعريف مؤسسة كارنيغي، حيث شهد النسبة الأقل من الحركات التي أفضت إلى تغيير فوري في السياسة أو القيادة.
وعلى نطاق أوسع، ولكن باستخدام تعريفات أضيق، تعقب أكاديميون بجامعة هارفارد المظاهرات وحركات المقاومة المدنية منذ عام 1900. وعندما قاموا بإحصاء الحملات التي تطالب بحلول جذرية – تلك الحركات التي تهدف إلى الإطاحة بحكومة ما أو التخلص من احتلال عسكري أو الانفصال – وجدوا ارتفاعا هائلا في عددها خلال العقدين الماضيين، لكنهم وجدوا أيضا بالتزامن مع ذلك انخفاضا في معدل نجاحها.
إحدى النظريات التي تفسر ذلك هي انتشار استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي والرسائل النصية.
في الماضي، كان يتم تنظيم المظاهرات من خلال شبكات مجتمعية يتم بناؤها عبر أعوام من النشاط السياسي، وهو ما كان يجعل من الصعب على السلطات إخمادها، بحسب الخبراء. ولكن مع إمكانيات الاتصال والتواصل غير المسبوقة، صارت تعبئة الناس بشكل عفوي – وأيضا تعقبهم – أسهل من أي وقت مضى.
ويقول البروفيسور هو-فونغ هونغ الأستاذ المتخصص في الاقتصاد السياسي والمظاهرات بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية: “إنه سلاح ذو حدين”.
“فالأفراد بحاجة إلى أن يعرفوا أن مظالمهم ليست فردية في الواقع، بل إن هناك آخرين يشتركون معهم في مشاعرهم وإحساسهم بالانتماء إلى مجتمع واحد. لذا يقومون بالتعبئة. لكن، إذا اعتمدت أكثر مما ينبغي على وسائل التواصل الاجتماعي في عملية التنظيم، فإن الأنظمة السلطوية تستطيع أيضا أن تستخدمها لفرض الرقابة وتوظيف تقنيات للمراقبة. ويمكن وقف العملية برمتها بسهولة كبيرة”.
تعتمد الحكومات بشكل متزايد على ما تسميه البروفيسورة إريكا شينويث، وهي واحدة من الأكاديميين الذين شاركوا في دراسة هارفارد، “السلطوية الرقمية”، والتي تتجاوز مجرد المراقبة.
خلال المظاهرات التي خرجت لرفض انقلاب ميانمار في عام 2021، قطعت السلطات خدمة الإنترنت تماما عن الناس لمنع المتظاهرين من التواصل مع بعضهم بعضا.
وفي هونغ كونغ وبر الصين، سعت الشرطة إلى قمع المتظاهرين من خلال تفتيش هواتفهم وتطبيقات الرسائل المشفرة. وقال ناشطون صينيون إن حسابات مزيفة على وسائل التواصل يزعم أصاحبها أنهم صحفيون تواصلت معهم مؤخرا، وهو ما أثار مخاوف من أن ذلك وسيلة أخرى تستخدمها السلطات لجمع معلومات عنهم.
من التكتيكات الأخرى شن هجمات مضادة على المتظاهرين للنيل من مصداقيتهم وشرعية حركتهم. عادة ما يتم ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتشر عليها المعلومات المضللة بسرعة، وعادة ما يكون وقوده عمليات تنمر وحملات تشهير جيدة التنسيق.
أحد الأمثلة على ذلك هو تحميل “قوى أجنبية” مسؤولية تحريض المتظاهرين – كما شهدنا في استجابة السلطات الهندية لمظاهرات المزارعين عام 2020، كما أنها عبارة دأبت وسائل الإعلام الصينية الرسمية على ترديدها، وكذلك المدونون القوميون.
لكن السلطوية الرقمية واحدة فقط من العديد من الوسائل التي أصبحت الأنظمة تجيد استخدامها لإخماد الحركات الاحتجاجية، على حد قول مراقبين.
من الوسائل الأخرى شن حملات قمعية استباقية، وحشد التأييد الداخلي للحيلولة دون انضمام القطاعات المتبرمة داخل المؤسسة السياسية إلى المتظاهرين (وهو أحد العوامل المهمة لإنجاح أي حركة)، واستخدام سلطات الطوارئ خلال وباء كوفيد لإخماد العصيان.
ومع تراجع الديمقراطية ولا سيما في آسيا، تستطيع الحكومات بشكل متزايد أن تفعل ذلك بدون مواجهة عواقب وخيمة رغم الانتقادات الدولية. يقول البروفيسور هونغ: “هناك تضامن بين الأنظمة الاستبدادية والسلطوية، إذ يدعم بعضها بعضا..فهي تتخذ إجراءات قمعية صارمة [ضد الحركات الاحتجاجية]، وعندما تُفرض عليها عقوبات دولية، يستطيع أن يساعد بعضها بعضا”.
وضع اللبنة الأولى
لكن ماذا لو كان هناك أكثر من طريقة واحدة للتفكير في ما إذا كانت مظاهرة ما قد حققت نجاحا أم لا؟
تلبية حشود من الناس لدعوات التظاهر قد تعتبر في حد ذاتها إنجازا، لا سيما في البلدان السلطوية التي ينفصل فيها الناس عن السياسة، كما تقول البروفيسورة ديانا فو الأستاذة المساعدة بقسم العلوم السياسية بجامعة تورونتو الكندية.
احتجاجات الأوراق البيضاء، على سبيل المثال، تعد بمثابة صحوة سياسية “حيث إن المواطنين الصينيين تجاسروا على قول “لا” لحكومتهم للمرة الأولى في حياتهم. الاحتجاجات كانت نقطة تحول من الانصياع إلى الانشقاق، ولا سيما بين أبناء الجيل الجديد”، كما تقول فو، التي تضيف أن الاحتجاجات دفعت السلطات إلى تخفيف القيود المفروضة بسبب وباء كورونا.
لهذه الأسباب يرى بعض الناشطين الصينيين أن المظاهرات كانت ناجحة في نهاية المطاف، رغم قمع السلطات لها.
يقول متحدث باسم جماعة CitizenDailyCN (سيتيزين ديلي سي إن) الناشطة: “لم يكن أحدنا ليتنبأ بمقاومة كهذه في الصين في الوقت الراهن..أهم شيء هو أن الاحتجاجات جعلت الكثير من هؤلاء ‘المتمردين في السر ‘ يدركون أن هناك الكثير من الأشخاص الذين يسيرون على نفس الدرب، في واقع الأمر، وأنهم ليسوا بمفردهم”.
وأضاف، في إشارة إلى المظاهرات الأخرى التي اندلعت في الصين منذ احتجاجات الأوراق البيضاء: “إذا لم تخرج مظاهرات الأوراق البيضاء، ما كان [لتلك المظاهرات الأخرى] أن تحدث…أو على الأقل لما حظيت بنفس القدر من الاهتمام”.
يرى البعض أن نجاح المظاهرات يمكن قياسه ليس فقط بما إذا كانت قد حققت أهدافا فورية، ولكن أيضا من خلال ما تتركه من أثر على المدى البعيد.
المظاهرات، بما فيها تلك التي توصف بالفاشلة، من الممكن أن تضع اللبنة الأولى لحركات احتجاجية في المستقبل. فهي لا تزرع فقط بذور فكرة أن بإمكان الناس إحداث تغيير، ولكنها أيضا توفر الممارسة لشيء أكبر وأنجح مع مرور الوقت.
يقول البروفيسور جيف واسرستروم أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا إرفين الأمريكية: “عندما يكون لديك موسيقيون يعزفون معا، في المرة التالية التي يجتمعون فيها سوف يعزفون بشكل أكثر فاعلية”.
ويضيف أن غالبية الحركات الاجتماعية “تحصل على تنازلات صغيرة في أفضل الأحوال” قبل أن تخبو جذوتها. لكن ذلك لا يعني أنه لا يتبقى هناك شيء للناس يبنون عليه..فحتى الحركات الفاشلة يمكن أن يكون لها إرث، إذ إنها توفر النماذج والسيناريوهات”.
من بين تلك الأمثلة “تحالف الشاي بالحليب”، وهو ائتلاف فضفاض يضم المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية عبر أنحاء آسيا.
بعض التكتيكات التي استخدمها المتظاهرون في هونغ كونغ عام 2019 – مثل حركات اليد والحشود التي تتجمع بشكل يبدو عشوائيا ولكنه متفق عليه مسبقا لتأدية عرض ما ثم تتفرق سريعا، واستخدام المظلات وأقماع المرور للاحتماء من الغاز المسيل للدموع – تمت محاكاتها لاحقا من قبل المتظاهرين في كل من تايلاند وسريلانكا. يدلل ذلك على أنه مثلما تستطيع الأنظمة السلطوية أن تبني تحالفا مع بعضها بعضا، فإن المتظاهرين والحركات الاجتماعية من مختلف البلدان يمكنهم أيضا التضامن مع بعضهم بعضا.
بدا ذلك جليا أيضا في الصين، حيث إن الشعارات المناهضة للحكومة ورئيس الوزراء شي جينبيغ، والتي كانت قد رُددت للمرة الأولى في مظاهرة “رجل الجسر”، انتشرت مرة أخرى خلال مظاهرات الأوراق البيضاء التي تلتها بأسابيع. ويقول البروفيسور واسرستروم إن الصينيين المقيمين في الخارج أبقوا الكثير من تلك الشعارات والأفكار “على قيد الحياة”، واستمروا في ترديدها على شبكة الإنترنت وخلال مظاهرات نظموها في الخارج، فهم غير مكبلين بالقيود الرقابية.
وكان لجماعة “سيتيزين ديلي سي إن” دور بارز في ذلك. فقد استغلت وسائل التواصل الاجتماعي للقيام بدور مركز للمعلومات من خلال نشر تفاصيل المظاهرات و”الميمز” (memes) السياسية، وهو ما جعل منها لاعبا رئيسيا في حركة التمرد الصينية على شبكة الإنترنت.
يقول ممثل الجماعة، الذي طلب عدم ذكر اسمه حفاظا على سلامته: “انتهت حركة الأوراق البيضاء، لكن المقاومة نفسها لم تنته”.
“الموقف المثالي هو أن تتواصل أصوات التمرد داخل البلاد وتؤدي إلى المقاومة، ويستمر حماس المتضامنين معها في الخارج. ولكن في المرحلة الحالية..لا يسعنا إلا أن ننتظر الفرصة التالية. لا زلت أعتقد أنه ستكون هناك فرصة أخرى.
“ربما لن يطلق على التمرد القادم اسم رجل الجسر أو احتجاجات الأوراق البيضاء، لكن سيكون له رمز جديد”.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.