- وليد بدران
- بي بي سي
تُعد مدينة ريو ريكو المكسيكية الحدودية الصغيرة الواقعة في ولاية تاماوليباس الشمالية ذات تاريخ ثري. وعلى الرغم من صعوبة تخيل ذلك، إلا أن تلك البلدة كانت في مرحلة ما مثل لاس فيغاس مُصغرة. وقبل ذلك، كانت جزءا من الولايات المتحدةلكن أهل البلدة نسوا ذلك لعقود.
كيف حدث ذلك؟
في عام 1967، اكتشف سكان بلدة ريو ريكو الحدودية بين الولايات المتحدة والمكسيك أنهم ليسوا مواطنين مكسيكيين، ولكنهم في الواقع أمريكيون. فلسنوات طوال، كان يُفترض أن ريو ريكو كانت جزءا من المكسيك لأنها تقع جنوب النهر الذي يشكل الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك.
ومع ذلك، قبل عام 1906، كانت ريو ريكو تقع في الواقع شمال النهر، وبالتالي كانت أرضا أمريكية.
لقد شكل نهر ريو غراندي (أو ريو برافو في المكسيك) الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك. وكانت البلدة تقع شمال النهر ضمن منطقة هوركون تراكت، وهي قطعة أرض ضيقة تبلغ مساحتها 413 فدانا والتي كانت رسميا جزءا من الولايات المتحدة حتى عام 1977.
وفي الأصل، كانت منطقة هوركون تراكت شمال النهر المتعرج – وبالتالي جزءا من ولاية تكساس الأمريكية – حتى أدى التحويل غير المصرح به للنهر إلى قطعها عن بقية الولاية في عام 1906.
“الأصابع” الحدودية
غالبا ما تتغير الحدود، إما بشكل عنيف بسبب الحرب، أو بشكل سلمي عند تبادل الأراضي أو شراؤها.
لكن لم يحدث أي من هذين الأمرين، لقد كانت شركة، منسية منذ زمن طويل، هي التي أعادت كتابة تاريخ حدود الدولتين.
ففي عام 1848، تم اعتبار مجرى نهر ريو غراندي (أو ريو برافو في المكسيك) الحد الفاصل بين حدود المكسيك وولاية تكساس الأمريكية. لكن ذلك النهر يحتوي على العديد من التعرجات مما يؤدي إلى وجود “أصابع” من الأرض تابعة لإحدى الدولتين ومحاطة تقريبا بأراضي الدولة الأخرى.
ومن بين تلك “الأصابع” الحدودية منطقة هوركون تراكت التي تبلغ مساحتها 413 فدانا (1.67 كيلومتر مربع)، وهي محاطة بالنهر (والمكسيك) باستثناء وصلة ضيقة في نهايتها الشمالية الشرقية.
في أوائل القرن العشرين، كان لدى شركة ريو غراندي للأراضي والري الأمريكية محطة ضخ على الجانب الأمريكي تأخذ المياه من النهر لتوزيعها على المزارعين المحليين.
ومع ذلك، أصبحت الشركة قلقة من أن النهر قد يغير مساره، لذلك، دون أي تصريح، حفر في عام 1906 قناة، والتي عزلت 419 فدانا جنوب النهر، 1.67 كيلومتر مربع من الأراضي المعروفة باسم بانكو هوركون.
في يوليو/تموز من عام 1906، قامت شركة ريو غراندي الأمريكية للأراضي والري بالحفر لتقصير مجرى النهر من أجل تنظيم تدفق مياه النهر لأغراض الري.
وكان ذلك الإجراء من قبل الشركة غير مُصرح به، وتم تقديم الشركة في النهاية إلى المحكمة حيث تم تغريمها 10 آلاف دولار، ولكن تم السماح بتحويل مجرى النهر إذا وضعت الشركة علامات حدودية.
لكن لم تضع الشركة أبدا علامات حدودية، تاركة المجال بالكاد لتمييز الأراضي الأمريكية عن الأراضي المكسيكية المجاورة.
ووفقا لمبدأ القانون الدولي، تم الاتفاق على أن تظل الأرض تابعة للولايات المتحدة وفقا لمعاهدة الحدود لعام 1848 حيث أن التغييرات الطبيعية فقط في مجرى النهر هي التي تؤثر على الحدود في تلك المنطقة.
وقال جو فيداليس من مركز ماكالين للتراث بولاية تكساس لبي بي سي ريل: “هناك عواقب لمحاولة السيطرة على الطبيعة”.
على الرغم من أن قطعة الأرض كانت لا تزال من الناحية القانونية جزءا من الولايات المتحدة، إلا أن موقعها الذي بات جنوب النهر وضعها تحت سلطة المكسيك.
انتهكت شركة ريو غراندي للأراضي والري الأمريكية عدة معاهدات وتم تغريمها، لكن وضع الإقليم ظل طي النسيان من الناحية القانونية .
لاس فيغاس مُصغرة
لقد تكيف سكان المنطقة بسرعة ليصبحوا جزءا من المكسيك.
في عام 1920، تم فرض الحظر على الكحوليات في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
وخلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، نشأ ما يشبه المنتجع في تلك المنطقة التي باتت لاحقا بلدة ريو ريكو حيث كان يتم تقديم الخمور والسماح بلعب القمار.
وقد وافق السكان، كونهم في الغالب من أصل مكسيكي، على سلطة الحكومة المكسيكية، وتصرفت جميع الأطراف بشكل عام كما لو كانت الأراضي مكسيكية.
وهكذا، باتت تلك المنطقة معروفة كمكان يمكن للمواطنين الأمريكيين في جنوب تكساس الذين يريدون تناول الجعة أو مارغريتا والمقامرة، ولا يمكنهم فعل ذلك على الضفة الشمالية من النهر، الذهاب إليه حيث يمكنهم التجديف عبر النهر، أو السباحة، وأحيانا السير عبره ليحصلوا على ما يريدون من ريو ريكو التي تُركت على الضفة الجنوبية من النهر بعد التحويل المصطنع وغير القانوني من قبل شركة الري الأمريكية.
وكانت البلدة سعيدة بتزويد جيرانها في الشمال بكل ما يريدون.
ويقول فيداليس في تصريحات لبي بي سي ريل: “في عام 1928 بدأوا في بناء جسر لعبور نهر ريو ريكو”.
وكان ملهى تيفولي في ريو ريكو يحتوي على قاعة رقص ضخمة، وكانت كل المشروبات الكحولية مرغوب فيها.
وقد نشرت الصحف المحلية ليس فقط خبر الافتتاح الكبير للملهى، ولكن أيضا عن كل شيء آخر يقدمه المكان.
ومضى فيداليس قائلا: “كان لديهم كازينوهات وألعاب قمار، كان ملهى تيفولي الليلي يحتوي على حلبة رقص بحجم ملعب كرة السلة، كما كانت هناك مصارعة الديكة وسباقات الكلاب، لقد أدى الحظر إلى ازدهار اقتصاد ريو ريكو”.
آل كابوني
كان الاسم الذي برز على الساحة في ذلك الوقت هو اسم آل كابوني .
وتقول ألما برنال، من ريو ريكو لبي بي سي ريل: “لا يوجد سجل رسمي بأنه كان هناك. لكن من المفترض أن أتباعه كانوا مسؤولين عن ضخ الأموال في ريو ريكو لتحويلها إلى منطقة سياحية”.
وتضيف قائلة: “كان هناك فندق ومسرح حيث تمكن أجدادي من رؤية بيدرو إنفانتي وسارة غارسيا، وهما فنانان مهمان للغاية في تاريخ المكسيك، لقد سافر الكثير من الناس إلى ريو ريكو لمجرد رؤية هؤلاء الفنانين”.
وقد انتهت الأوقات الطيبة بعد عام 1933 عندما أُلغي الحظر.
بلدة نائمة
بعد نهاية الحظر، عادت ريو ريكو إلى وضعها كمدينة حدودية نائمة، كما يتذكر مايك إنجلاند، الذي يعمل في شركة للماشية، ونشأ على الجانب الأمريكي من النهر.
بالنسبة له، لم تكن الحدود أبدا شيئا يفصل بين الناس.
وقال لبي بي سي ريل: “نشأت هناك على النهر كانت الجنة، كنت أذهب للصيد كل يوم مع بعض الأطفال عبر النهر، الذين يأتون إلى منزلنا مثل الأسرة، لقد سبحت أيضا في النهر وتوجهت جنوبا والتقيت بعائلاتهم تماما كما التقوا بعائلتي”.
ومضى يقول: “إنه أمر غريب بعض الشيء. إنهم يتحدثون عن وجود أشخاص بشكل غير قانوني في هذا الجانب، أعتقد أنني كنت موجودا بشكل غير قانوني في ذلك الجانب أيضا، لكن لم يهتم أحد”.
بحلول ذلك الوقت، ولعدة عقود، كان سكان ريو ريكو قد نسوا إلى حد كبير أنهم كانوا مواطنين أمريكيين .
ظل ذلك الوضع حتى عام 1967، عندما اكتشف جيمس هيل، أستاذ الجغرافيا بجامعة ولاية أريزونا، ذلك التحول في مجرى النهر أثناء دراسة خرائط المسح الجيولوجي القديمة.
الاكتشاف “المذهل”
ويقول فيدراليس: “أجرى هيل بحثا مكثفا في هذه المنطقة واطلع على بعض الخرائط الموثقة جيدا”. كان اكتشاف سكان ريو ريكو أنهم في الحقيقة مواطنين أمريكيين وليسوا مواطنين مكسيكيين، كشفا مذهلا.
وعلى أثر ذلك، قامت لجنة حدود الولايات المتحدة ووزارة الخارجية بالتحقيق والتأكيد على النتائج التي توصل إليها هيل.
وقد نصت معاهدة الحدود لعام 1970 على أن تصبح منطقة هوركون تراكت جزءا من المكسيك عند الانتهاء من مشروعين جديدين للسيطرة على الفيضانات. وفي عام 1972، تنازلت الولايات المتحدة رسميا عن قطعة الأرض لجمهورية المكسيك.
وفي نفس العام، رفع هوميرو كانتو تريفينيو، أحد سكان بلدة ريو ريكو، دعوى قضائية لمنع دائرة الهجرة والجنسية الأمريكية من ترحيله من تكساس إلى المكسيك، بحجة أنه مواطن أمريكي، لكن صدر الحكم ضده في عام 1976.
وفي العام التالي، قضت محكمة الاستئناف بأنه نظرا لأن قطع هذه المنطقة من الأراضي عن الولايات المتحدة في عام 1906 كان غير مُصرح به، فإن أي شخص ولد في ريو ريكو بين عامي 1906 و1972 يحق له الحصول على جنسية الولايات المتحدة.
لقد استحوذت قضية “الأمريكيين المفقودين” على الرأي العام.
من بين أولئك الذين أبدوا اهتماما خاصا بالتحقيق المحامي لوريير ماكدونالد محامي هوميرو كانتو الذي تمكن من إثبات أن موكله أمريكي بسبب ميلاده في بلدة ريو ريكو .
ويقول فيداليس: “إنه التعديل الرابع عشر للدستور، إذا ولدت داخل أراضي الولايات المتحدة، فأنت مواطن، ولقد تسبب ذلك في الكثير من الارتباك حيث جاء الناس من جميع أنحاء المكسيك، ومن أوروبا، وحتى من الصين ليقولوا إنهم ولدوا في ريو ريكو”.
ومع سعي العديد من الأشخاص للحصول على الجنسية الأمريكية وزعمهم أنهم ولدوا في ريو ريكو، كان على المحامين أن يوازنوا بين مطالباتهم.
ويتذكر روبرت كرين، محامي الهجرة، قائلا لبي بي سي ريل: “كان لدينا عملاء يعتمد وضعهم على الغرفة التي ولدوا فيها، لأن المنزل نفسه كان على خط الحدود الدولية”.
في النهاية، تنازلت الولايات المتحدة رسميا عن المنطقة للمكسيك، وقبلت طلبات الجنسية من حوالي 250 شخصا .
ولم يبق في البلدة سوى عائلات قليلة من المزارعين، وهي واحدة من أكثر المناطق التي تخضع لحراسة مشددة في العالم لمكافحة تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية في المنطقة.
ويبلغ عدد سكان ريو ريكو حاليا أقل من 170 نسمة، وفقا لتعداد عام 2020
أصل الحكاية
إذا كان التاريخ يقول إن بلدة ريو ريكو كانت جزءا من ولاية تكساس الأمريكية، فإنه يقول أيضا إن تكساس نفسها كانت جزءا من المكسيك.
وكانت تكساس قد استقلت عن المكسيك عام 1936، وعاشت جمهوريتها المستقلة نحو 10 سنوات حظيت خلالها باعتراف الولايات المتحدة نفسها، ودول أوروبية مثل بريطانيا وفرنسا، وكان لجمهورية تكساس دستورها وعلمها وحكومتها الخاصة، لكن لم تعترف بها المكسيك رسميا.
ورغم أن جمهورية تكساس كانت دولة قصيرة العمر إلا أنه كان لها تأثير كبير على تاريخ الولايات المتحدة.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إن الطريق إلى استقلال تكساس في أوائل القرن التاسع عشر بدأ عندما نالت المكسيك استقلالها عن إسبانيا عام 1821، إذ شجعت الحكومة المكسيكية الجديدة المستوطنين الأمريكيين على الانتقال إلى تكساس، التي كانت آنذاك جزءًا من المكسيك.
وكان الإسبان قد وصلوا إلى هذه المنطقة في عام 1528. وقد طالب الفرنسيون بالمنطقة في عام 1685 معتبرين أنها جزء من لويزيانا.
في عام 1803، اشترت الولايات المتحدة لويزيانا من فرنسا، لكنها تنازلت عن المطالبات بتبعية تكساس لإسبانيا بموجب معاهدة عام 1819.
وأصبحت تكساس جزءًا من المكسيك عند استقلال المكسيك عن إسبانيا في عام 1821، لتبدأ هجرة المستوطنين الأمريكيين إلى المنطقة.
وبحلول عام 1835، كان هناك حوالي 30 ألف مستوطن أمريكي في تكساس، وكان كثير منهم غير راضين عن سياسات الحكومة المكسيكية بسبب الضرائب المتزايدة والمقدار المحدود للحكم الذاتي في ظل النظام المكسيكي المركزي مما أدى لاندلاع الثورة، واستقلال تكساس عام 1936.
وقد ظلت جمهورية تكساس دولة ذات سيادة من عام 1836 إلى عام 1845 عندما انضمت إلى الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من الاعتراف بسيادتها من قبل الدول الأخرى، إلا أن جمهورية تكساس لم تدم طويلاً. لطالما أراد العديد من أبناء تكساس الانضمام إلى الولايات المتحدة، وكانت حكومة الولايات المتحدة تحاول شراء تكساس من المكسيك منذ عام 1826.
وكان ضم تكساس قد أدى إلى عدد من النزاعات مع المكسيك، بما في ذلك الحرب المكسيكية الأمريكية (1846-1848) التي أدت إلى الاستحواذ على الأراضي المعروفة الآن باسم كاليفورنيا وأريزونا ونيو مكسيكو وأجزاء من كولورادو ووايومنغ. كما أدت إلى اتفاقية غوادلوبي هيدالغو في 2 فبراير/ شباط من عام 1848 التي منحت الولايات المتحدة سيطرة بلا منازع على تكساس، واعتبرت نهر ريو غراندي هو خط الحدود الأمريكية-المكسيكية.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.