أتجول في أحياء مدينة أنطاكيا المنكوبة التي أزورها للمرة الأولى. في الخلفية أصوات الآليات الثقيلة تهدم المباني وشاحنات تنقل الركام. ورائحة الموت تفوح من كل مكان. فقدت المدينة كل معالمها وتحولت إلى مدينة أشباح. مساجدها وكنائسها تحولت إلى أنقاض، أحياؤها السكنية هُجرت. ما تبقى من أبنيتها متصدع وآيل للسقوط. مقتنيات بعض ساكنيها متناثرة على الأرض. صور فوتوغرافية لأشخاص لا أعرف ما إذا كانوا في عداد المتوفين أم الناجين. كتب وألعاب أطفال بين الركام.
سكان المدينة الناجين يحملون اليوم ذاكرة مدينتهم المدمرة. ذاكرة مدينة ثكلى. التقيت بثلاثة شبان سوريين كانوا يعيشون في أنطاكيا قبل وقوع الزلزال الذي أودى بحياة حوالي 50 ألف شخص بحسب وزارة الداخلية التركية وشرد ما لا يقل عن 1.5 مليون شخص بحسب البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. تحدثت معهم عن لحظات الزلزال الأولى كيف عاشوها وعن حياتهم اليوم بعد مرور حوالي الثلاثة أشهر على الكارثة. وهذه قصصهم…
الوداع الأخير…
هنا شارع الأكنجي…
قبل 6 شباط/فبراير، كان شارعا رئيسيا وحيويا ومدخلا أساسيا لمدينة أنطاكيا. كانت المطاعم والمقاهي تملأ المكان. من شارع مزدحم وحيوي خلال النهار، إلى شارع هادئ بعد منتصف الليل. هكذا كان شارع الأكنجي قبل الزلزال.
اليوم، لم يعد الأكنجي كما كان عليه في السابق، تحول إلى شارع بلا حياة.
في هذا الشارع، كان يعيش الشاب يمن سيد عيسى، 25 عاما، مع عائلته قبل وقوع الزلزال. قبل نحو 10 أعوام، غادر يمن سوريا هربا من الحرب متجها إلى الجنوب التركي. كانت مدينة الريحانية التركية المتاخمة للحدود السورية الشمالية محطته الأولى، لينتقل بعدها ويستقر في مدينة أنطاكيا.
لحظات الزلزال الأولى طُبعت في ذاكرة يمن. يتذكر كيف استفاق من النوم مرتعبا في ساعات الفجر وكيف نجا هو وأفراد عائلته بأعجوبة. “أتذكر كيف كان البناء يهتز يمينا ويسارا وأتذكر مشهد أهلي وهم يطيرون عن الأرض”، يقول يمن.
يستذكر يمن قصة جارته المصابة بمرض السرطان التي أتت من سوريا إلى أنطاكيا بهدف العلاج. تمكن يمن برفقة 4 شباب آخرين من انقاذها. لكن بعد حوالي الساعتين فارقت الجارة الحياة.
“أذكر والدها وهو يحاول إنعاشها… لكنها كانت قد فقدت الحياة”.
دُفنت الجارة في بقعة صغيرة قرب المنزل ليعود والدها بعد عدة أيام ليأخذ الجثمان ويعيد دفنها في المدافن الجماعية في تركيا.
ويضيف: “لم أتخيل يوما أن أدفن جيراني”.
ما حصل ليمن غيّر مجرى حياته بالكامل إذ لم يتوقع يوما أنه وخلال ثواني سيخسر كل شيء، “خسرت بيتي وجزءا كبيرا من ذاكرة المكان الذي كبرتُ ونشأتُ فيه وخسرتُ قسما كبيرا من أصدقائي”. هذا العام، مرّ رمضان حزينا على يمن. “رمضان مهم جدا بالنسبة لنا لكننا كناجين غير قادرين على الاحتفال بهذا الشهر الفضيل بالطريقة المناسبة”.
مستقبل غير واضح ينتظر يمن الذي يحاول أن يعيش كل يوم بيومه. “لا أعرف إذا كنت قادرا على تخطي ما حصل، سأتركها للزمن”.
وعن بيته الذي عاش فيه سنوات طويلة وتربطه فيه ذكريات كثيرة، يقول يمن، “اليوم قررتُ أن أودّع بيتي، أعرف أنني لن أعود بعد ذلك إذ لم يتبقَ لي أي شيء هنا”.
“وكأنه يوم القيامة…”
كان يجلس خالد شاكر المعروف بأبي جابر، 33 عاما، مع زوجته في بيتهم في مدينة أنطاكيا عندما شعرا بالأرض تهتز من تحتهما. لوهلة نسي أبو جابر أنه ليس في سوريا، فظن أن منزله يتعرض لقصف صاروخي. ليستدرك بعدها أنّ ما يحصل ليس قصفا صاروخيا إنما زلزال.
هرع أبو جابر لتفقد ابنه جابر في الغرفة المجاورة لكنه لم يصل وكان البناء قد بدأ بالانهيار. فقد أبو جابر الوعي ليستفيق بعد ذلك ويجد نفسه في وضعية السجود. “كانت ثيابي ممزقة وعندما رفعت رأسي كانت عيني تنزف وشعرت بكسور في وجهي”.
بقي أبو جابر خمسة أيام تحت الأنقاض غير قادر على التحرك بسبب تجمع الركام من حوله. “صرخت كثيرا. صرخت للناس، ولكن لم يجبني أحد. صرخت لزوجتي لم تجبني. صرخت لابني لم يجبني”.
أمضى أيامه الخمسة تحت الأنقاض وهو يسمع الأصوات من حوله. “أطفال ونساء يصرخون، هناك من كان يتوب إلى الله، هناك من كان يصلي، وكأنه يوم القيامة”، يتذكر أبو جابر بحرقة.
بعد إنقاذه من قبل فرق الإنقاذ التركية، علِم أبو جابر أنّ زوجته الحامل فارقت الحياة. ولم يكن هناك أي أخبار عن ابنه جابر. “عندما خرجتُ من تحت الأنقاض ورأيتُ ما حصل معي توقعتُ وفاة ابني”.
وبعد عدة أيام، سمع أبو جابر أخبار عن ابنه الذي تم نقله إلى مخيم بخشين في أنطاكيا.
جابر ابن السبعة أعوام فقد الأعصاب الحسية والسمعية في قصف صاروخي في سوريا، واليوم يعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة جراء الزلزال. “جابر لا يتحدث سوى عن الزلزال. أصبح يقلّد الزومبي وكيف كانت الجثث متناثرة على الأرض”، يقول والده.
علامات الصدمة تبدو واضحة على وجه جابر. يعجز عن وصف ما حدث بالكلمات، بلغة الإشارة يصف جابر كيف كانت الأبنية تنهار أمام عينيه. يجلس إلى جانب والده بصمت، يلعب بطابة بلاستيكية قدمتها له مجموعة من الشابات السوريات المتطوعات اللواتي وبتجهيزات ووسائل بسيطة يقدّمن الدعم النفسي والمعنوي لمتضرري الزلزال.
عناقٌ تحت الأنقاض…
في مخيم الإيواء هذا في مدينة الريحانية التركية، يعيش ناجون من الزلزال. على يميني وعلى يساري خيم بلاستيكية بشوادر بيضاء وزرقاء وفي الوسط طريق ترابي.
تعرفت هناك على أمجد عبود، 25 عاما من محافظة درعا السورية. أمجد الذي كان يعيش في منزله في أنطاكيا برفقة عائلته قبل وقوع الزلزال، أصبح اليوم يعيش بخيمة بلاستيكية متواضعة.
فقد أمجد والديه وثلاثة أخوة وأخت واحدة جراء الزلزال ليبقى هو فرد العائلة الوحيد الناجي من الزلزال والشاهد على فداحته.
أمضى أمجد أربعة أيام تحت الأنقاض قبل أن يتم انتشاله. كان يدعو ويصلي أن يخرج ويلتقي مجددا بعائلته. الأمر الذي لم يحصل. “أحد أخوتي المتوفين كان إلى جانبي. عانقته على مدى أربعة أيام. كنت أقرأ له القرآن وأصلي عليه”، يتذكر أمجد.
أمجد الذي خسر أيضا مصدر رزقه يعيش اليوم تبعات الكارثة التي حلّت بهم. يتواصل مع شقيقيه في هولندا ويبحث إمكانية السفر إليهم بعد أن خسر كل شيء هنا.
وعن يومياته في المخيم وفي ظل شهر رمضان، يقول أمجد، “رمضان هو شهر الصوم والصلاة والدعاء، أصلي وأدعي وأنتظر وقت الإفطار”.
وفي الختام يقول أمجد، “ما حصل مجرد حلم”.
في 6 شباط/فبراير، ضرب زلزال بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر جنوب تركيا وشمال سوريا. أودى الزلزال بحياة حوالي 50 ألف شخص وشرّد الملايين.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.