- كارين طربيه
- بي بي سي نيوز عربي – بيروت
في لبنان يسمّى مدير البنك المركزي٬ حاكم مصرف لبنان. وفي حال رياض سلامة تحديدا٬ ليس هذا اللقب مجرد بلاغة لغوية.
فالرجل يتولى إحدى أعلى وظائف الدولة منذ ثلاثين عاما. هو يُعتبر مهندس النموذج النقدي والمالي في البلد ما بعد الحرب اللبنانية وأحد أهم اركان نظامه.
يُطلق عليه البعض اسم الساحر -وهو توصيف كان له وقع إيجابي جدا لسنوات طويلة- فبدا سلامة في فترات وكأنه صانع عجائب في الفضاء النقدي والمالي.
إلا أنه في عام 2019 تحوّلت العجيبة إلى كابوس، انهار “النموذج” وبدا أن السحر انقلب على الساحر وعلى الجميع.
اليوم٬ بعد ثلاثة عقود من الحاكمية٬ وبعد ثلاث سنوات من الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان٫ أعلن رياض سلامة أنه سيغادر منصبه عند انتهاء ولايته في أواخر يوليو/تموز.
كرّر الإعلان خلال مقابلتين تلفزيونيتين منفصلتين الأسبوع الماضي. في إحداها أشار سلامة الى أنه لدى انتهاء ولايته سيطوي صفحة في حياته.
إلا أن المسألة ليست بهذه البساطة بالنسبة للبلاد وأهلها، وذلك لأسباب عدة.
من يخلف رياض سلامة؟
في الوقت الذي يعتبر الوضع النقدي في لبنان هو الأسوأ بتاريخه، لا بل من بين الأسوأ في التاريخ، وأموال المودعين محتجزة في مصارف تنفذ إضرابات متلاحقة، وبينما العملة الوطنية – الليرة- تترنح على وقع أسعار صرف متعددة ومتقلبة وغير متجانسة، تبدو مهمة أي شخص يتولى قيادة البنك المركزي بعد رياض سلامة٬ شبه انتحارية.
وبالتالي قد يتعذّر إيجاد مرشحين للمنصب، هذا مع الأخذ بالاعتبار صعوبة حصول توافق سياسي على اسم يتولى وظيفة بهذه الحساسية.
إلا أن تعقيد المسألة لا يتوقف هنا. فبحسب العرف اللبناني، يجب أن يكون حاكم البنك المركزي مارونيا- مسيحيا.
وفي حال شغور المنصب٬ يتولى تصريف الاعمال مرحليا نائبه الأول الذي ينتمي إلى الطائفة الشيعية.
وبالتالي فان تعذّر إيجاد خليفة لسلامة واستمرار الفراغ في رئاسة الجمهورية، التي يجب أن تعود هي أيضا لماروني مسيحي، سيؤجج النقاش بشأن موقع المسيحيين في الحكم ويزيد من حجج من يعتبرون أن هناك استهدافا لذلك الموقع.
ثم هناك سؤال آخر عن مصير رياض سلامة نفسه الذي هو موضع تحقيقات مالية محلية وأوروبية. وهو بالمناسبة، مطلوب للتحقيق داخليا ولكنه يرفض المثول أمام القاضية. ماذا سيحدث اذا ما عاد مواطنا عاديا وليس حاكما؟ وهل يغادر البلاد وهناك تقارير عن شبهات مالية ينظر فيها محققون أوروبيون قد تطاله اتهامات بشأنها؟
وفوق كل ذلك هناك المسألة الجوهرية بشأن من يتحمل مسؤولية الانهيار في لبنان؟
ففي الوقت الذي يعتبر رياض سلامة أن غياب سياسات إصلاحية وإنقاذية من قبل الحكومات المتعاقبة وتمدّد سياسات الهدر في البلاد هي التي أوصلت الأمور الى ما هي عليه، يحمّل آخرون سلامة مسؤولية أساسية عن الوضع الحالي وعن انهيار الليرة التي لطالما طمأن الناس بأنها بألف خير٬ لتصبح اليوم بألف ازمة.
وإذ يرجح أن تبقى هذه القضية – كغيرها في البلاد- رهن تجاذبات سياسية ومالية وإعلامية٬ يفرض سؤال نفسه: ماذا بعد رياض سلامة؟
في احدى مقابلاته الأخيرة، قال سلامة ان هناك أطرافا في البلاد أرادت تدمير “النموذج” دون ان يكون لديها بديل عنه٬ وقد نجحت بذلك، بحسب قوله.
هو لم يسمّ من يقصد وعلى الأرجح أنه لن يدخل يوما في مسالة الأسماء، فهو حافظ اسرار الطبقة السياسية منذ ثلاثين عاما، كما أن تمييع المسؤوليات والقاء اللوم على “أطراف” مجهولة، هو من معالم النظام اللبناني.
إلا أن ما قاله يعيد تصويب النقاش بشأن “النموذج”. هل كان صالحا أصلا؟ هل كان يُمكن تفادي انهياره ومن يتحمل المسؤولية عن ذلك؟
وربما الأهم من كل ذلك، أي “نموذج” للبنان في المستقبل؟
قد يغادر سلامة منصبه بالفعل بعد خمسة أشهر. لكن النظام المالي اللبناني لن يغادر موقعه الحالي المُنازع بين “نموذج” فشل ونموذج لم ينضج بعد ولا مؤشر حتى على ولادته قريبا.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.