- أوين آموس
- بي بي سي نيوز
عندما أُطلق سراح الأمريكي، بوبي بوستيك، من السجن في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بعد 27 عاماً ضمن مجموعة أحكام بالسجن وصلت الى 241 عاماً، بدت الكثير من الأشياء خارج السجن غريبة بالنسبة له.
من سماعات الأذن اللاسلكية (“لماذا يتحدث الرجال إلى أنفسهم؟”)، إلى الأشخاص الذين يتحدثون عبر مكبرات الصوت، إلى ماكينات الشرب ذاتية الخدمة (“تحرك يدك والماء يخرج!”)، لقد تغير العالم كثيراً، مقارنة بشهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1995 حين دخل السجن.
لكن الأغرب من كل ذلك كان الناس.
يقول بوستيك البالغ من العمر 44 عاماً:”إن الأمر الواضح هو مدى لطفهم مقارنة بالسجن. تذهب إلى المتجر، تجد عبارة : سيدي، هل يمكنني مساعدتك؟ بينما في السجن، ليس لديك سوى وجوه عابسة ومضايقات مختلفة”.
لا يزال بوستيك يتكيف مع سماع عبارة “مرحباً، كيف حالك؟” بدلاً من عبارة “لا تقترب مني كثيرًا”.
يقول بوستيك:”هنا، توجد أشياء جيدة. الناس يبتسمون. الأطفال الصغار يلوحون لك. يبدو الأمر وكأن هذه هي الحياة. هذا طبيعي. هذا ما يفترض أن تكون عليه الأمور”.
من المفترض إذاً، أنه من الصعب التكيف بعد 27 عاماً داخل بيئة عدوانية.
يضيف بوستيك:”لا، لأنك في أعماقك، أردت دائماً الشعور بتلك الإنسانية. أردت ذلك الاتصال البشري … تلك هي الحياة. هذا جمال الحياة. هذه متعة الحياة أن تكون إنساناً”.
بعد قرابة 10000 ليلة في الزنزانة، وفي يوم 8 من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي كان آخر يوم في الزنزانة لبوستيك، لكنه كان مشغولاً جداً بالحلم بالحرية لدرجه حرمته النوم.
بدلاً من ذلك، أمضى ليلته الأخيرة في زنزانته يحزم أمتعته. ترك بعضاً من ممتلكاته لسجناء آخرين، لكنه احتفظ بشيء واحد. الآلة الكاتبة التي تحتفظ بالعديد من الذكريات والكثير من القصص لم يكن ليتركها وراءه.
مع شروق الشمس وبينما كانت زنزانته مكتظة، نظر إلى اللوحة التي تحدد أي السجناء يتحركون إلى الزنازين. بجانب اسمه كانت كلمة واحدة: أُطلق سراحه.
يقول بوستيك:”لم يكن الأمر حقيقياً حتى رأيت تلك الكلمات. عندما فعلت ذلك، كان الأمر أشبه بالموسيقى لروحي”.
بعد أن أصبح رحيله من السجن حينذاك حقيقة واقعة، ارتدى بوستيك ملابس العودة إلى المنزل. بعد أن قضى 27 عاماً في ملابس السجن الرمادية، اختار بذلة زرقاء مكونة من ثلاث قطع.
“كان تلك اللحظة الفصل الجديد في حياتي”، يقول بوستيك.
قبل خمسة وعشرين عاماً، قالت القاضية إيفلين بيكر لبوستيك ” من الممكن أن تموت في السجن”. ولكن الآن، في الساعة 7.30 صباحاً من أحد أيام شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، خرج بوبي من السجن رجلًا حراً، كانت بذلته وابتسامته مشرقة مثل أشعة الشمس في ولاية ميسوري.
تقدمت امرأة ترتدي قبعة سوداء إلى الأمام لتعانقه. كانت القاضية إيفلين بيكر.
بدأت الرحلة التي انتهت بعناق خارج السجن في ديسمبر/ كانون الأول عام 1995، في يوم حافل بالمخدرات في مدينة سانت لويس بولاية ميسوري.
بعد تناول مشروب الجن (مشروب كحولي قوي) وتدخين الحشيش وتعاطي مخدرات أخرى، ذهب بوستيك البالغ من العمر 16 عاماً آنذاك وصديقه دونالد هاتسون لتنفيذ عملية سطو مسلح.
قاما بسرقة مجموعة من الأشخاص كانوا يقدمون هدايا عيد الميلاد للمحتاجين. أطلقا النار من سلاح ناري (لحسن الحظ لم يتسببا في إصابة أحد)، وسرقا سيارة من امرأة تحت تهديد السلاح.
عُرض على بوستيك صفقات لتسوية قضائية إذا أقر بأنه مذنب، ليتم الحكم عليه بالسجن لمدة 30 عاماً مع فرصة الإفراج المشروط، لكنه رفض تلك التسوية، على الرغم من أنه كان مذنباً.
حكمت عليه القاضية بيكر بأحكام متتالية على جرائمه الـ 17، وصلت جملتها إلى 241 عاماً.
توصل هاتسون إلى تسوية قضائية، وأقر بأنه مذنب، وحُكم عليه بالسجن لمدة 30 عاماً.
وعندما أجرت بي بي سي مقابلة مع بوستيك لأول مرة في عام 2018، كان لديه بصيص من الأمل، لأنه في عام 2010، قضت المحكمة العليا الأمريكية بأنه لا ينبغي إصدار أحكام بالسجن المؤبد على الأحداث – دون الإفراج المشروط – في الجرائم التي لا تحتوي على القتل.
وفي عام 2016، تم التأكيد على أن الحكم يجب أن يطبق على الحالات السابقة، مثل حالة بوستيك.
لكن سلطات ولاية ميسوري كانت غير مستعدة للإفراج عن بوستيك، لأنه لم يكن لديه عقوبة بالسجن مدى الحياة – كان لديه عدة أحكام على جرائم متعددة، حدثت في وقت واحد.
حتى أنها ادعت أنه يتاح له فرصة الإفراج المشروط في “مرحلة الشيخوخة القصوى”.
وفي أبريل/ نيسان عام 2018، وبعد شهر من مقابلة بي بي سي رفضت المحكمة العليا الأمريكية استئناف بوستيك دون أن ذكر السبب.
يقول بوستيك: “سيستسلم معظم الناس في ذلك الوقت. بمجرد أن يتنكروا لك، لن يتبق لك شيء”.
لكن بوستيك لم يستسلم. لقد عاد إلى قراءة الكتب – نابليون هيل هو كاتبه المفضل – وعاد إلى الآلة الكاتبة. ظل الأمل بداخله حياً، مع كل حرف يكتبه تلو الآخر.
لاحقاً حدث تعديل لقانون ولاية ميسوري الجديد، حيث عُرض الإفراج المشروط على السجناء الذين حُكم عليهم بعقوبات طويلة وهم أطفال، وهو ما أعطى بوستيك فرصة أخرى.
ومع ذلك وبحلول 14 مايو/ أيار من عام 2021 – اليوم الأخير من الدورة التشريعية لولاية ميسوري – لم يكن قد تم تمرير القانون بعد.
يقول بوستيك: “لم يكن لدي الكثير من الأمل. عادة، إذا لم يتم تمريره بحلول يناير/ كانون الثاني أو فبراير/شباط، فلن تكون هناك فرصة لتحقيق ذلك”.
بعد ذلك تلقى بوستيك رسالة من صديق له بالمراسلة.
يقول بوستيك:”بدأ السجن يسمح لنا بتلقي رسائل البريد الإلكتروني. أرسل لي شخص ما مقالاً منشورا في صحيفة ميسوري إندبندنت عبر البريد الإلكتروني، يخبرني أن القانون قد صدر بالفعل … لقد كانت معجزة. شعرت وكأني أقول: يا رجل، هل سيحدث هذا حقاً؟ هل سيوقع الحاكم على القانون؟”.
وقع حاكم الولاية مايك بارسون على القانون. أصبح بوستيك ومئات آخرين مؤهلين للإفراج المشروط، وتم تحديد موعد جلسة استماع لـ بوستيك في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2021.
يقول:”لكنني لم أكن أعرف ما أتوقعه. لجنة الإفراج المشروط لا تعطي بطاقة مجانية للخروج من السجن”.
خلال الجلسات، يُسمح للنزلاء بطلب المساعدة من مندوب واحد. كان بوستيك يعرف ممن سيطلب المساعدة- القاضية التي قالت له إنه سيموت في السجن.
بدأت القاضية بيكر – التي أصبحت في عام 1983 أول امرأة سوداء تعين قاضية في ولاية ميسوري – في التشكيك في حكم بوستيك حوالي عام 2010، وذلك بعد عامين من تقاعدها، عندما قرأت عن الفرق بين أدمغة المراهقين والبالغين. في حياتها المهنية التي استمرت 25 عاماَ، كانت هذه هي العقوبة الوحيدة التي ندمت عليها.
وفي فبراير/ شباط عام 2018، كتبت بيكر مقالاً في صحيفة واشنطن بوست وصفت فيه حكم بوستيك بأنه “ظالم وغير عادل”، وبعد شهر تحدثت إلى بي بي سي مكررة الرسالة.
إذاً ماذا قالت في جلسة الإفراج المشروط؟
تقول لبي بي سي: “كان بوبي طفلاً يبلغ من العمر 16 عاماً، وعاملته كشخص بالغ كامل الأهلية، وهذا خطأ. لقد اقتربت من بوبي وأخته. لقد رأيته يتحول من مجرد صبي جانح إلى شخص بالغ عاقل ولطيف للغاية. لقد كبر”.
بالإضافة إلى القاضية بيكر، كتب أحد ضحايا بوستيك من عام 1995 لدعم قضيته (اتصلت بي بي سي سابقاً ببعض ضحايا بوستيك وهاتسون، لكن لم يرغب أحد منهم في التحدث علناً). بمساعدتهم، كانت جلسة الإفراج المشروط ناجحة.
تقول القاضية بيكر: “لو كان بإمكاني أن أطير فرحاً، لكنت فعلت”.
لقد أسفر ذلك، بعد عام واحد بالضبط من جلسة الاستماع بشأن الإفراج المشروط، عن أن الشخص الذي احتضنته في صباح ذلك اليوم المشمس من نوفمبر/ تشرين الثاني أصبح رجلاً حراً.
تقول: “كان ذلك مثل عيد الميلاد، رأس السنة الجديدة، كل الأعياد جاءت في يوم واحد. بدأت في البكاء. أصبح بوبي حراً”.
بعد مقابلة القاضية بيكر، بالإضافة إلى الأصدقاء والأقارب والمؤيدين، ذهب بوستيك لتناول أول وجبة له خارج السجن منذ عام 1995. ولأنه نباتي منذ نحو 24 عاماً، اختار وجبة”تاكو” النباتية. ولكن كانت هناك مشكلة.
يقول:”ركبت السيارة وتقيأت وجبتي بالكامل. عندما تغادر السجن ولم تر الطريق السريع منذ 27 عاماً، هناك شيء يسمى دوار الحركة”.
بعد تعافيه، ذهب إلى منزل أخته في سانت لويس، المدينة التي نشأ فيها، وعلى مدار اليوم كما يقول جاء أكثر من 400 شخص للترحيب به.
يقول:”لقد اصطفوا حول المبنى. عندما استدرت بهذه الطريقة، صافحت يد هذا الشخص، ابن عمي، هذه العمّة، هذا العم، هذا الصديق … بقيت مستيقظاً حتى الثانية صباحاً”.
يدير بوبي وأخته الآن مؤسسة خيرية، تقدم الطعام والألعاب وغيرها من أشكال الدعم للأسر ذات الدخل المنخفض في سانت لويس (سمُيت على اسم والدته الراحلة “ديان”) التي كما يقول بوبي:”أعطت للكثير من الناس، حتى رغم أنه لم يكن لدينا الكثير”.
كما يدير بوبي ورشة عمل للكتابة كل يوم خميس في مركز احتجاز الأحداث بالمدينة، ويأمل أن يفعل المزيد من الأعمال الخيرية.
ويكسب بوبي المال من مبيعات الكتب – لديه سبعة كتب على موقع أمازون، وكلها مكتوبة بواسطة الآلة الكاتبة التي كان يستخدمها في السجن – وأحياناً يجني المال من خلال إلقاء المحاضرات. ومن عوائد ذلك، تمكن من استئجار شقة له ودفع الفواتير.
يقول: “بما أفعله الآن، بالكاد أوفر نفقات حياتي”.
ويأمل بوبي في الحصول على وظيفة بدوام كامل في العمل المجتمعي، أو في مجال توعية الشباب، ويقوم بإجراء مقابلات الآن من أجل الحصول على وظيفة. ومع ذلك – حتى لو كان المال قليلاً – فإنه لا يقلل من إعجابه أو امتنانه للعالم الخارجي.
يقول:”ما زلت أعاني من بعض الأشياء. لكن بخلاف ذلك، الحياة هنا جميلة. أذهب نحو الثلاجة وأبحث في مجموعة متنوعة من الأشياء للاختيار من بينها. أضع نفسي في حوض الاستحمام – لم أستحم في حوض الاستحمام منذ 27 عاماً! لا تستخف بقيمة أي شيء من هذه الأشياء”.
إذاً، لدى بوستيك فرصة ثانية للحياة وهو ممتن لها، لكن شريكه في ذلك اليوم في ديسمبر/ كانون الأول 1995 لم تعد لديه هذه الفرصة.
دونالد هاتسون – الذي وافق على صفقة التسوية القضائية وتلقى حكما بالسجن لمدة 30 عاماً – توفي في السجن في سبتمبر/ أيلول عام 2018. وألقى تقرير الطب الجنائي باللوم في وفاته على جرعة زائدة من المخدرات. لقد كان مؤهلاً للإفراج المشروط بعد تسعة أشهر من ذلك الوقت.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.