وفي حين تسعى باريس لنزع فتيل تلك الحملات من خلال تبني استراتيجية “الشراكة المتساوية”؛ يشكك خبراء في إمكانية نجاح الاستراتيجية الجديدة، مشيرين إلى أن الأحداث الأخيرة اعطت مؤشرا على أن المستعمرات الفرنسية القديمة باتت أقرب إلى تحالفات جديدة تقوم على مبدأ “الاقتصاد أولا”، وهو ما قد يجد سندا شعبيا كبيرا في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها المنطقة.
ووفقا لأبهيشيك ميشرا، الزميل المشارك ببرنامج الدراسات الاستراتيجية بمركز “أوبزرفر ريسيرش فونديشن”، فإن زيادة حدة المشاعر المعادية لفرنسا في العديد من بلدان غرب أفريقيا دفعت باريس إلى الابتعاد عن نهجها السابق تجاه القارة وتبني استراتيجية جديدة تقوم على صياغة شراكات أمنية بدلا من نهج التدخل المباشر الذي ظلت تتبناه لعقود طويلة.
ويوضح ميشرا أن هذا النهج الجديد يستلزم تخفيضًا ملحوظًا في عدد القوات والقواعد الفرنسية في بلدان المنطقة.
وعلى الرغم من أن التغير السريع في اتجاه تيار الولاء لفرنسا بدا مفاجئا بالنسبة لبعض المحللين؛ إلا أن آخرين يرونه طبيعيا في ظل التغيرات الديموغرافية الكبيرة التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية، وعلو كعب شريحة الشباب التي باتت تشكل أكثر من 55 في المئة من السكان؛ إضافة إلى التحولات الجيوسياسية التي تسارعت أكثر مع تزايد الوجود الروسي في المنطقة منذ منتصف العقد الماضي وارتفاع حدة الشعور الشعبي الرافض للوجود الفرنسي.
لكن ميتي بيرجيس، الباحث في معهد العلوم السياسية بباريس، يعتقد أن الوقت لم يفت بعد لكي تضغط باريس على زر إعادة الضبط مرة أخرى.
ويوضح “لا تشكل المشاعر المعادية تهديداً حقيقياً لفرنسا في الوقت الحالي، لكنها تعبر عن تشكيك عميق في سياستها في أفريقيا”.
ويشير بيرجيس إلى أن فرنسا تمتلك العديد من أدوات الضغط الاقتصادي والدبلوماسي التي تمكنها من إعادة تموضعها في بلدان غرب أفريقيا.
العامل الاقتصادي
يسود اعتقاد واسع بأن تزايد الغضب الشعبي تجاه الوجود الفرنسي في المنطقة ناجم في الأساس عن إهمال العلاقات الاقتصادية؛ حيث تبلغ حصة بلدان غرب أفربقيا أقل من 2 في المئة من تجارة فرنسا الخارجية؛ كما لا تتعدى استثماراتها في تلك البلدان 1 في المئة من إجمالي تدفقاتها الخارجية.
وفي ظل اتهامات متزايدة لفرنسا بالاستمرار في خنق البلدان الأفريقية اقتصاديا؛ يرى خبراء أن هذا النهج هو الذي سرع من وتيرة المطالب بإنهاء الوجود الفرنسي في المنطقة.
وتلزم اتفاقية الفرنك الأفريقي الدول الأفريقية المتعاملة بها والبالغ عددها 12 دولة حاليا على وضع 50 في المئة من احتياطيها النقدي في البنوك الفرنسية، إضافة إلى طباعة العملة داخل فرنسا وهو ما يدر عوائد تقدر بمليارات الدولارات سنويا لفرنسا التي تقول إنها ولأكثر من 60 عاما تمكنت من تأمين وجودها في بلدان المنطقة عبر عدد من الاتفاقيات الملزمة التي حققت لها عائدات ضخمة من خلال الاستثمار في الموارد الطبيعية؛ وفي المقابل استفادت بلدان المنطقة من المساعدات العسكرية والتنموية التي يدور جدل كبير حول كفايتها ومعادلتها للمكاسب التي جنتها فرنسا.
وفي هذا السياق؛ يقول أبوبكر معازو استاذ الإعلام ومنسق مركز الدراسات الدبلوماسية في جامعة ماجدوغري في نيجيربا؛ لموقع سكاي نيوز عربية “ظلت فرنسا تحتفظ لعقود طويلة من الزمان على أدواتها الاستعمارية التي سببت ارهاقا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا كبيرا في دول المنطقة التي استمرت في قبول الوضع الموروث ودفع الضرائب الاستعمارية بأشكال مختلفة من بينها وضع نصف احتياطياتها النقدية وجزء كبير من مواردها الطبيعية تحت النفوذ الفرنسي؛ لكن الأمر تغير بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة “. ويشير معازو إلى ان التوجه الظاهري للدول الأفريقية؛ خاصة المستعمرات القديمة في غرب أفريقيا هو رفض النهج الفرنسي القديم وهو ما تجسد بالفعل في التوجه نحو ما أطلق عليه القادة العسكريين الجدد في تلك البلدان “مسار الاستقلال الحقيقي”.
لكن معازو لا يبدي تفاؤلا كبيرا بخريطة التحالفات الجديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وعدد من البلدان الأفريقية الأخرى والتي أصبحت أكثر ميلا نحو روسيا؛ ويوضح “تزايد الوجود الروسي بشكل كبير في البلدان الأفريقية على حساب الدور الفرنسي؛ لكن على الرغم من مساهمة مجموعة فاغنر في الحرب ضد الجماعات الإرهابية وتمتع روسيا بتاريخ طويل من دعم عدد من الدول الأفريقية لتأمين الاستقلال؛ إلا أن هذا لا يعني أن روسيا ستنأى عن استغلال الموارد الأفريقية”.
ويرى معازو أن النهج الصحيح الذي يجب على البلدان الأفريقية اتباعه في ظل المتغيرات الحالية هو إعادة هندسة استراتيجياتها وسياساتها الخارجية بما يمكنها من الاعتماد على نفسها وإنهاء حالة التبعية؛ واصفا التحول نحو الاعتماد على روسيا او غيرها من القوى العالمية الأخرى ب “تغيير قوى بأخرى مشابهة ولكن بمظهر مختلف”.
تغير أدوات الضغط
بعد أقل من عامين من استقلالهما في ستينيات القرن الماضي، حاولت جمهوريتا مالي وتوغو إنشاء عملات وطنية خاصة بهما كخطوة أولى نحو التخلص من التبعات الاقتصادية للاستعمار الفرنسي والتي تجسد جزء كبير منها في “الفرنك الأفريقي” الذي ظل يربط منذ العام 1945 اقتصادات 12 دولة أفريقية بالخزانة الفرنسية؛ لكن خطوتا البلدين باءت بالفشل؛ إذ وجد موديبو كيتا؛ اول رئيس لجمهورية مالي بعد الاستقلال نفسه محاصرا بعزلة اقتصادية قاسية؛ كما كان مصير نظيره التوغولي سيلفانوس اوليمبيو القتل بعد ان نفذ ضباطا تدربو في فرنسا انقلابا عليه في العام 1963.
اليوم؛ بدا الوضع متغيرا بشكل كبير إذ لم تعد باريس تملك ذات أدوات الضغط القديمة خصوصا في ظل تزايد الوجود الصيني والروسي في بلدان المنطقة.
وفي الجانب الآخر؛ يرى مختصون أن فرنسا لا تزال تمتلك العديد من أوراق الضغط التي يمكن ان تستخدمها لاستعادة مكانتها المفقودة في المنطقة ومن أبرزها ورقتي النفوذ الأمني والمساعدات الاقتصادية.
ومنذ الانقلاب الذي أطاح بحليفها في مالي وإعلان السلطة العسكرية الجديدة الانفكاك من الارتباط الوثيق بفرنسا وطرد جنودها من الدولة الغرب أفريقية الغارقة في الإرهاب والأزمات الداخلية؛ بدأت المصاعب تنهمر على باريس؛ إذ امتدت عدوى الانقلابات المناوئة للوجود الفرنسي إلى الحليفتين التقليديتين الأخرتبن بوركينا فاسو والنيجر؛ لكن في المقابل تزايدت الهجمات الإرهابية والأزمات الاقتصادية في تلك البلدان التي كانت تعتمد بشكل كبير على المساعدات التنموية والإنسانية الفرنسية.
وأدى انعدام الأمن؛ مصحوبا بتدهور الأوضاع الاقتصادية إلى تراجع ملحوظ في شعبية القادة العسكريين في مالي وبوركينا فاسو التي اكتسبت زخما كبيرا عند بداية توليهم السلطة.
وظلت فرنسا لسنوات طويلة تدفع بجنود ومساعدات فنية عسكرية للنيجر ومالي وبوركينا فاسو ودول أفريقية اخرى لمساعدتها في مكافحة الهجمات الإرهابية التي ارتفعت خلال الفترة الأخيرة بمعدل 55 في المئة؛ وفقا لتقديرات مؤشر الإرهاب للعام 2022؛ الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام الدولي.
وتزايدت الهجمات الإرهابية بشكل مضطرد خلال الفترة الأخيرة؛ حيث نفذت جماعات متشددة عدد من العمليات الدموية؛ كان آخرها الخميس عندما قتل 49 مدنيا و15 عسكريا على الأقل في هجومين منفصلين استهدفا قاربا على نهر النيجر ومعسكرا للجيش في شمال شرق مالي. كما تخضع مدينة تمبكتو الشمالية للحصار منذ نهاية أغسطس مع تواصل الهجمات على وسائل النقل.
وقبل خروجها القسري من مالي وبوركينا فاسو والخروج المحتمل من النيجر؛ كانت فرنسا تحتفظ بنحو 8 آلاف جندي في البلدان الثلاثة لمساعدتها في مكافحة الإرهاب.
ويشكك الصحفي ناتي ولد جللي في إمكانية ملء الفراغ الأمني الذي خلفته فرنسا؛ وأوضح لموقع سكاي نيوز عربية “عندما قررت التخلص من الوجود العسكري الفرنسي؛ كانت الحكومة المالية تخطط للاعتماد على حلفاءها الجدد مثل روسيا؛ لكن مجموعة فاغنر الروسية واجهت معارضة داخلية جارفة”.
لكن ديوب عمر الخبير الأمني والاستراتيجي في مركز موديبو كايتا للدراسات بالعاصمة المالية بماكو قلل من تأثير الخطوة؛ وقال لموقع سكاي نيوز عربية “لم يحدث اي فراغ امني في مالي بعد قرار الحكومة بانهاء مهمة القوات الفرنسية؛ حيث واصلت القوات المالية تصديها للجماعات الإرهابية”.
حسابات الربح والخسارة
تتلقى النيجر وبوركينا فاسو ومالي نحو ثلث المساعدات التنموية التي تقدمها فرنسا للبلدان الأفريقية والمقدرة بنحو 3.6 مليار يورو سنويا؛ لكن باريس علقت تلك المساعدات في أعقاب الانقلابات التي وقعت في البلدان الثلاثة.
ويتوقع أن تؤثر القيود الفرنسية أيضا على مجمل برامج المساعدات التنموية والإنسانية التي تقدمها أوروبا لتلك البلدان والتي تصل إلى أكثر من ملياري يورو؛ وهو ما سيلقي بظلال قاتمة على الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في البلدان الثلاث التي تعتمد بشكل مفرط على المساعدات الدولية؛ إذ تتلقى النيجر وحدها نحو ملياري يورو سنويا.
ومن غير المتوقع أن تتمكن البلدان الأفريقية ال 12 التي تستخدم الفرنك الأفريقي ومن بينها النيجر ومالي وبوركينا فاسو؛ الانفكاك من الارتباط النقدي مع فرنسا في المستقبل القريب؛ إذ أن العملة الموحدة الجديدة التي تعتزم تلك البلدان استحداثها كبديل للفرنك لا تتضمن آليات استقلال كافية.
ويقول معارضون للسياسات الفرنسية إن فرنسا هدفت عند إنشائها الفرنك الأفريقي في العام 1945 إلى التحكم في تكلفة الوصول إلى المواد الخام من مستعمراتها وحماية الرعاية المسبقة لفرنسا من الكتلة النقدية الأخرى التي تسيطر عليها المملكة المتحدة؛ المستعمر الآخر الأكبر في القارة آنذاك.
وتنفي فرنسا تلك التهمة؛ وتقول وفقا لبيانات منشورة على صفحة وزارة الشئون الخارجية؛ “التعاون بين فرنسا وشركائها الأفارقة في يسهم الاستقرار المالي لهؤلاء الشركاء؛ من خلال توفير الحماية ضد مخاطر أزمات ميزان المدفوعات فضلاً عن تعزيز النمو؛ والعلاقة مع شبكة الأمان المالي العالمية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي”.
ومن المتوقع أن يضر قطع العلاقات الاقتصادية بأنشطة وأرباح الشركات الأوروبية والفرنسية؛ وسيؤدي إلى وقف تدفق صادرات المعادن المنتجة في المنطقة وخصوصا اليورانيوم الذي تعتمد المحطات النووية في فرنسا وحدها على النيجر في 10 في المئة لتغطية احتيجاتها. وإضافة إلى احتمالية ان تتكبد شركات الطيران الأوروبية خسائر باهظة إذا أجبرها اي إغلاق للمجال الجوي في دول المنطقة على قطع مسافات اطول إلى وجهاتها العالمية؛ فإن شركات الطاقة الأوروبية أيضا قد تتعرض لخسائر في حال توقف المشروعات الكبرى مثل مشاريع خطوط أنابيب النفط والغاز التي تعبر أراضي النيجر أو تبدأ هناك.
- حقائق
يقدر عدد سكان 16 مستعمرة فرنسية سابقة في أفريقيا بنحو 200 مليون نسمة، ويبلغ متوسط ناتجها المحلي الإجمالي نحو 400 مليار دولار سنويا. - تعمل نحو 275 شركة فرنسية في البلدان الثلاثة؛ منها 200 في مالي و45 في بوركينا فاسو و30 في النيجر.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.