فمن الولايات المتحدة مروراً ببريطانيا وفرنسا وألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان وصولاً إلى الصين، شهد قطاع صناعة الرقائق الإلكترونية في 2023 الإعلان عن استثمارات هائلة بمئات المليارات من الدولارات، وذلك لأجل هدف واحد، وهو تحقيق الدول الاكتفاء الذاتي في صناعة الرقائق الالكترونية، وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية.
وفي صراع الاستحواذ على التكنولوجيا المصنّعة للرقائق الإلكترونية، لا يوجد تحالفات فالجميع يلعب ضد الجميع، حيث تحاول كل دولة من الدول المشاركة في الصراع، تقديم إغراءات مالية ضخمة، لحث مُصنّعي الرقائق على نقل نشاطهم إلى أراضيها، بما يساعد هذه الدول في الهيمنة على المستقبل الرقمي للعالم، عبر امتلاك هذه السلعة الاستراتيجية التي هي عبارة عن قطعة معدنية صغيرة مصنوعة من السيليكون.
“جزيرة الرقائق” تحتكر الإنتاج
في الوقت الذي تخوض فيه الدول الكبيرة معركة السيطرة على صناعة الرقائق الإلكترونية، تحاول “جزيرة الرقائق” تايوان، التي تحتكر حالياً معظم الإنتاج العالمي من الرقائق، تدارك ما يحصل لعدم السماح لمنافسيها الكُثر بسلبها “درع السيليكون” الذي تمتلكه والذي حوّلها من دولة زراعية فقيرة في الخمسينيات إلى دولة صناعية مؤثرة في أدق تفاصيل حياة البشر اليومية حالياً.
ويعود سبب القوة التي تتمتّع بها تايوان في عالم الرقائق، إلى أنها موطن لشركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC) وهي أكبر شركة لصناعة الرقائق في العالم، إذ تستحوذ على أكثر من 50 بالمئة من الإنتاج العالمي للرقائق العادية ومتوسطة القوة، كما تستحوذ الشركة على أكثر من 90 بالمئة من الإنتاج العالمي للرقائق فائقة التطور.
وتعتبر TSMC التايوانية الوحيدة القادرة حالياً على إنتاج رقائق فائقة التطور، بدقة 3 نانوميتر بكميات تجارية والتي هي أسرع بنسبة تفوق الـ 60 بالمئة، مقارنة بالأجيال السابقة من الرقائق، بدقة 5 و4 نانوميتر، حيث أن التقدم السريع الذي تحققه TSMC، في تطوير الرقائق يضع هذه الصناعة تحت السيطرة التامة لتايوان.
ما هو “درع السيليكون”؟
وترى “جزيرة الرقائق” أن ارتباط صناعة الرقائق العالمية ارتباطاً وثيقاً بها فقط، يؤمن لها درعاً متيناً، يحميها من أي أطماع صينية بأراضيها، ويجعلها تحت حماية دولية قوية، إذ أن أي خلل قد يصيب عجلة إنتاج الرقائق، يمكن أن يشلّ حركة العالم أجمع، ولذلك تراهن تايوان على أن الدول ستتحرك لحمايتها، بسبب تواجد هذه الصناعة المهمة على أراضيها ومن هنا جاءت تسمية “درع السيليكون“.
وتعدّ رقائق السيليكون حالياً العامود الفقري للاقتصاد العالمي، ومن دونها لا شيء يعمل، بدءاً بالأجهزة الكهربائية والهواتف المحمولة والسيارات والطائرات وشبكات الاتصالات، مروراً بمراكز البيانات والحواسيب، وأجهزة الإنتاج في المعامل والأجهزة الطبية الحديثة، وصولاً إلى أنظمة التسلح والطائرات والصواريخ الحربية بما في ذلك الأسلحة النووية.
لا أحد يمكنه إنتاج الرقائق مثل تايوان
بدأت رحلة تايوان في صناعة رقائق السيليكون في ثمانينيات القرن الماضي، مستغلة ما تملكه من خامات ومواد أولية ومقومات من أراض رخيصة، ورأس مال جاهز، وأيادي عاملة متعلمة ومتدربة ومستعدة للعمل بأجور رخيصة جداً.
وبحسب شركة “ماكينزي” للاستشارات، فقد بلغت قيمة سوق الرقائق نحو 580 مليار دولار في 2022، ومن المتوقع أن تصل إلى تريليون دولار بحلول عام 2030، وذلك بدعم من الاستثمارات الضخمة التي يتم ضخها في هذه الصناعة.
وتعد تايوان، وكوريا الجنوبية، والصين، والولايات المتحدة، واليابان، من أبرز اللاعبين في هذه السوق، ولكن حتى اليوم لا يوجد منشأة واحدة في العالم، يمكنها إنتاج الرقائق بالطريقة التي يمكن لمعامل TSMC الموجودة في تايوان فعلها.
وتم تأسيس شركة TSMC في عام 1987 بمباردة حكومية، وهي تصنّع الرقائق المتطورة لصالح آلاف الشركات المهمة في العالم، مثل آبل وإنفيديا وكوالكم وغيرها الكثير، وهذا ما رفع قيمتها السوقية إلى ما يزيد على 426 مليار دولار في الوقت الراهن.
وتنفق TSMC حالياً نحو 40 مليار دولار على بناء مصنعين في ولاية أريزونا الأميركية، وذلك تماشياً مع مسعى واشنطن لنقل مصانع الرقائق إلى الأراضي الأميركية.
لن تتخلى عن درعها دون قتال
ويرى أخصائي شؤون التكنولوجيا، جورج داغر، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن الدول الصناعية أدركت في السنوات الأخيرة، أهمية الرقائق الإلكترونية كسلعة استراتيجية تتعلق بالأمن القومي، وهذا ما دفعها إلى محاولة اجتذاب رواد هذه الصناعة إلى أراضيها، عبر تقديم الإغراءات والدعم المالي السخي لهم، مشيراً إلى أن هذا التوجه سيؤدي إلى تحول “الدرع السيليكوني” الذي تتمتع به تايوان، إلى درع “هش” ولذلك فإن “جزيرة الرقائق”، ستقاتل بجميع قواها، لإفشال المخطط العالمي بتحقيق كل دولة الاكتفاء الذاتي في صناعة الرقائق.
ويشير داغر إلى أن حكومة تايوان عازمة على الحفاظ على تفوق البلاد في مجال الرقائق، فالبلاد بنت كل اقتصادها منذ عام 1973، على فكرة أن تكون المرجع العالمي لصناعة الرقائق، وإضعاف دورها في هذا المجال يشكل خطراً متعدد الجوانب على الجزيرة الصغيرة التي تبلغ مساحتها بالكاد 36 ألف كيلومتر مربع، والتي لا تمتلك نفطاً أو ثروات طبيعة، لافتاً إلى أنه حتى شبكة السكك الحديدية في تايوان، تم تصميمها بما يسمح للعاملين في صناعة الرقائق بالتنقل بين مواقع الإنتاج بسهولة.
خطط تايوان للمحافظة على قوتها
وبحسب داغر فإن أحدث خطة للحكومة التايوانية للمحافظة على مرجعيتها كمصنّع لا مثيل له للرقائق، تتمثل في تقديم دعم بملايين الدولارات لتحفيز تصميم الرقائق في البلاد، وليس فقط إنتاجها، وذلك بهدف رفع حصة البلاد من عائدات هذه التصماميم، من 21 بالمئة حالياً إلى 40 بالمئة مستقبلاً، كما أن تايوان تقدم دعماً على أسعار الطاقة والمياه، وهي من العناصر التي تحتاجها صناعة الرقائق، مشيراً إلى وجود خطة أخرى تعمل عليها تايوان، وهي إبطاء عملية افتتاح مصانع شركة TSMC في أميركا، وهذا ما يفسر تأخير انطلاق مصانع الشركة التايوانية هناك، إلى عامي 2025 و2026.
ووفقاً لداغر فإن TSMC تذرعت بعدم وجود يد عاملة في أميركا، تمتلك الخبرات الكافية في تصنيع الرقائق، فأعلنت تأجيل افتتاح أحد معاملها هناك، في حين أن هذا السيناريو كان جزءاً من المخطط التايواني لإبطاء التقدم الأميركي في هذا المجال، والحفاظ على الإنتاج والتكنولوجيا المتطورة في داخل الجزيرة لأطول وقت ممكن، فتوسع TSMC المفرط في الخارج يمكن أن يضعف شبكات البحث المحلية التايوانية، وطالما أن الشركة تحصر إنتاجها من الرقائق المتطورة داخل الجزيرة، فمن المرجح أن تظل البلاد الأكثر تقدماً في صناعة الرقائق.
موازين القوى ستتغير
من جهته يقول مهندس الاتصالات، عيسى سعد الدين، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن تايوان تواجه مخاطر كبيرة في خسارة تفوُّقها في مجال تصنيع الرقائق خاصة لصالح أميركا وكوريا الجنوبية، حيث أعدت كل منهما خططهما المنفردة، لتطوير هذه الصناعة على أراضيهما باستثمارات تفوق قيمتها الـ 400 مليار دولار على مدار عشر سنوات، مشيراً إلى أن تايوان تدرك جيداً أن موازين القوى لن تكون بعد 10 سنوات كما هي حالياً، فمهما قاتلت جزيرة الرقائق للحفاظ على “الدرع السيليكوني” الذي تتمتع به، سيكون من شبه المستحيل عليها المحافظة على حصتها السوقية الحالية.
ويشرح سعد الدين أن هناك حاجة في العالم، لإبعاد صناعة الرقائق الإلكترونية عن المناطق الجغرافية القريبة من النفوذ الصيني مثل تايوان، مع تقدم واضح لصالح أميركا في هذا المجال، التي تستخدم نفوذها لحث مختلف الشركات، على تصنيع الرقائق على أراضيها، كاشفاً أن 90 بالمئة من إنتاج تايوان من الرقائق يتم بيعه لأميركا حالياً، ولذلك فإنه عندما تتمكن أميركا من رفع مستويات إنتاج الرقائق على أراضيها، ستكون تايوان المتضرر الأكبر من هذا التحول.
وبحسب سعد الدين فإن تايوان ستكون مضطرة لتقاسم حصتها في إنتاج الرقائق، مع العديد من الأطراف، وذلك رغم امتلاكها لعناصر قوة تتمثل باليد العاملة الرخيصة، التي تملك خبرة كبيرة، إضافة للتقدم الذي تحققه TSMC في تصنيع رقائق متطورة، ولكن هذه الأمور لن تغير من حقيقة أن “جزيرة الرقائق” مهددة بفقدانها لورقة القوة التي كانت تدفع العالم للدفاع عنها في مواجهة الصين، ولذلك تدرك الحكومة التايوانية أن ما يحمله المستقبل سيكون مربكاً لاقتصاد البلاد وللوضع السياسي فيه.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.