- وائـل جمـال
- بي بي سي
يعكس الأدب الشعبي بقوالبه الإنسانية وأنماطه الفنية واللغوية ملامح مجتمعات الشرق، وتعد شخصية جحا واحدة من تلك القوالب البارزة في حكاياتنا الشعبية، وأكثرها تطويعا لتناول قضايا اجتماعية وإنسانية على مدى عصور مختلفة، بل عبرت حدود الزمان والمكان، وأصبح لكل مجتمع “جحا” الخاص به يعكس من خلاله واقعه بفلسفة ساخرة.
لا تزال شخصية جحا حيّة في الخيال الشعبي والوجدان الجمعي العربي منذ قرون، لكونها تجمع بين البساطة الصريحة والنقد الساخر مع الحكمة العميقة في رؤية واقع عصرها، بطريقة حفظها التاريخ على لسانه وسجلتها مأثورات شعبية.
والسؤال هو: هل كان جحا شخصية حقيقية ذات أصول في التاريخ أم محض خيال شعبي للتنفيس عن ضغوط اجتماعية في عصور مختلفة؟ وهل عاش في عصر معين أم كان مجرد رمز فني يتسم بحس الفكاهة تناقلته الأجيال وطورت أساليبه التعبيرية في عصور لاحقة؟
حقيقة أم خيال؟
يرى باحثون في الأدب الشعبي أن جحا شخصية عاشت في القرن الثامن الميلادي، وتضاربت آراء البعض في كونه عاش في القرن الثالث عشر أو القرن الرابع عشر الميلادي. وذكره مؤرخون قدامى كرجل مثقف وحكيم وعالم فطن من رواة الحديث النبوي، بينما وصفه آخرون بالحمق والغباء، ورأى البعض أنه رجل عربي، وآخرون أكدوا أنه تركي أو فارسي، بل انتقلت الشخصية إلى دول أوروبا الوسطى وأخذت ملامح أوروبية جديدة، فمن هو جحا؟
في ضوء غلبة الموروث الشفهي فقط وتناقل الرمز الفني للشخصية وما تقدمه من محتوى دون الاهتمام بتفاصيل تاريخية أخرى، غاب عن بال كثيرين أن جحا شخصية حقيقية ذات كيان وتاريخ عربي. فقد وُلد في العقد السادس من القرن الأول الهجري (القرن الثامن الميلادي)، وينتهي نسبه إلى قبيلة فزارة العربية، وقضى معظم حياته في مدينة الكوفة بالعراق. هذا ما تخبرنا به مطالعة كتب التراث العربي القديمة، وتجمع، رغم تضاربها أحيانا، على واقعه التاريخي بسماته المعروفة بيننا.
ونستطيع تأصيل شخصية جحا وتجميع خيوط ظهورها في كتب التراث العربي القديمة اعتمادا على عدة دراسات أبرزها دراسة محمد رجب النجار “جحا العربي: شخصيته وفلسفته في الحياة والتعبير”، ودراسة عبد الستار أحمد فراج “أخبار جحا”، ودائرة المعارف الإسلامية، النسخة الإنجليزية، الطبعة الرابعة (في مادة DJUHA).
نلتقط طرف الخيط لشخصية جحا من نادرة ذكرها الجاحظ، المتوفى سنة 255 هجريا (868 ميلاديا)، في إحدى رسائله بعنوان كتاب “البغال”، نقلا عن أبو الحسن المدائني، المتوفى سنة 224 هجريا، بيد أنه لم يتحدث عن تفاصيل سيرته، الأمر الذي يرجح فكرة أن جحا كان معروفا في أيام الجاحظ، أوائل القرن الثالث الهجري.
وذكر ابن النديم المتوفى سنة 385 هجريا (987 ميلاديا) في كتابه “الفهرست” (377 هجريا) كتابا قائما بذاته اسمه “كتاب نوادر جحا”، ووضعه في أول قائمة النوادر ضمن “أسماء قوم من المغفلين، أُلف في نوادرهم الكتب، ولا يعلم مؤلفها”.
ويقول النجار في دراسته إن ابن النديم “إذا كان قد صنّف نوادره ضمن نوادر الحمقى والمغفلين، فالذي يعنينا هنا أن نوادر (جحا) العربي قد باتت في القرن الرابع الهجري من الشهرة والذيوع، بحيث وجدت من يحفل جمعها وتدوينها وتصنيفها”.
ويضيف: “من الأهمية بمكان أن نشير باديء ذي بدء إلى أصالة النموذج الجحوي العربي، وأصالة نوادره في ضوء ما ذكرته كتب التراث حتى القرن السادس الهجري. ومن ثم تتأكد أسبقيته -تاريخيا- على نظيره جحا التركي المعروف بنصر الدين خوجه، الذي لم يكن قد ظهر إلى الوجود بعد، وبذلك تكون مصادر التراث العربي قد حسمت نهائيا ذلك الخلط والاضطراب بين الشخصيتين”.
أسهم هذا الخلط، دون شك، في تنحية الوجود العربي لشخصية جحا لفترة، واعتبارها في أحسن الأحوال شخصية خيالية لا أصل لها، وهو أمر ثبت أنه مجاف للحقيقة والتاريخ على حد سواء.
ثم ذكره الجَوهري، المتوفى سنة 393 هجريا، في قاموسه “الصحاح” وقال إن “أبا الغصن كنية جحا”، فكانت هذه أول إشارة عربية لكنيته، ثم تحدث مخطوط “نثر الدرر” للآبي، المتوفى سنة 422 هجريا، عن أن الجاحظ “حكى أن اسمه نوح، وكنيته أبو الغصن … وأنه (جحا) أدرك أبا جعفر ونزل الكوفة”.
ويقول النجار في دراسته: “الذي يعنينا في ضوء هذا المخطوط، المعلومة التاريخية التي تجعلنا نرجح أن جحا ولد في العقد السادس من القرن الأول الهجري، ما دام أدرك أبا جعفر المنصور … وهذا يعني من ناحية أخرى أنه عاش في أواخر الدولة الأموية، ثم أدرك سقوطها إثر الصراع العسكري (الدموي) الذي نشب بين الأمويين والعباسيين، وأنه نزل الكوفة أيام أبي جعفر”.
وهو ما أكده أيضا فراج في دراسته “أخبار جحا” الذي يضيف أن جحا “له نادرة مع أبي مسلم الخراساني، ونادرة مع المهدي، كما يذكر أنه كان في وقت إسماعيل بن أبي خالد المتوفي 146 هجريا، وأنه روى عن عكرمة، المتوفى 105 هجريا”.
تردد اسم جحا في بعض كتب القرن الثالث إلى القرن السادس الهجري، ويبدو أنه كان شخصية مشهورة حتى ذكر اسمه الميداني، المتوفى سنة 518 هجريا، ودوّن مثلا عربيا في الحمق، في كتابه “مجمع الأمثال”، يقول “أحمق من جحا”، ويشرح في جملة واحدة، بحسب دراسة النجار، أن “جحا رجل من فزارة”، ويصفه بالحُمق.
وذكر ابن شاكر الكتيبي، المتوفى سنة 764 هجريا، في كتابه “عيون التواريخ”، مخطوطة باريس، أول سيرة تفصيلية لجحا العربي وقال في ذكر من توفوا سنة 160 هجريا “دُجين أبو الغصن بن ثابت اليربوعي البصري المعروف بجحا، رأى أنس بن مالك، وروى عن أسلم مولى عمر بن الخطاب، وهشام بن عروة…”.
وجاء الدميري، المتوفى سنة 807 هجريا، يضيف في كتابه “حياة الحيوان الكبرى”، أبعادا جديدة لشخصية ابن شاكر السابقة ويقول “دُجين بن ثابت أبو الغصن اليربوعي البصري، روى عن أسلم مولى عمر، وهشام بن عروة. قال ابن معين: حديثه ليس بشيء، وقال أبو حاتم وأبو زرعة: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة…”، ثم أضاف الدميري بعد ذلك “قال حمزة الميداني: جحا رجل من فزارة كنيته أبو الغصن، وهو من أحمق الناس”.
وهنا تشير دائرة المعارف الإسلامية إلى أن بعض الكتّاب من المذهب الشيعي يجعلون جحا شيعيا وراويا للحديث هو وأبو نواس وبهلول، وتضيف أن الاستراباذي في كتابه “منهاج المقال”، المنشور في طهران عام 1888، يذكره “مسند أبو نواس وجحا وبهلول… وما رووا من الحديث” الذي كان في حوزة أبي فارس شجاع الأرجاني المتوفى سنة 320 هجريا.
ويرى السيوطي، المتوفى سنة 911 هجريا، في جحا تابعيا فطنا، وقال إن معظم النوادر التي كان هو بطلها ليس لها سند، ويثبت أن هذه الشخصية كانت معروفة في مصر حق المعرفة، بيد أنه لا يسلط عليها ضوءا.
أحمق أم حكيم؟
يرصد المؤلفون القدماء من ابن النديم حتى ابن الجوزي في أواخر القرن السادس الهجري الصفة الغالبة على جحا وهي صفة الحماقة، وأن شهرته ذاعت بين الناس بها وأصبحت مضربا للأمثال، ويؤكدون ذلك بذكر فكاهته.
بيد أن المدقق لنوادر جحا يرصد إنسانا حكيما ربما اتخذ من الحماقة أو “التحامق”، بحسب تعبير النجار، وسيلة للتعبير في مواقف معينة، وهو رأي ذكره ابن الجوزي، المتوفى سنة 597 هجريا، في كتابه “أخبار الحمقى والمغفلين” عن مكي بن إبراهيم، المتوفى سنة 117 هجريا، الذي قال “رأيت جحا رجلا كيسا ظريفا، وهذا الذي يقال عنه -في الحمق- مكذوب عليه”، وهي شهادة من رجل ربما عرف جحا عن قرب.
ويقول فراج في دراسته إن ابن الجوزي، ذكر أن “جحا ويكنى أبا الغصن. وقد روي عنه ما يدل على فطنة وذكاء، إلا أن الغالب عليه التغفيل، وقد قيل إن بعض ما كان يعاديه وضع له حكايات”.
بيد أنه بالرجوع إلى ما ذكره ابن شاكر في كتابه، “عيون التواريخ”، نجد أننا أمام “جحوين اثنين”، أحدهما يروي الحديث النبوي، والآخر جحا صاحب نوادر الحمقى، ويسعى ابن شاكر إلى الفصل بين الشخصيتين مستفيدا من رواية ابن حبان التي يقول فيها “دُجين، يتوهم أصحابنا أنه جحا، وليس كذلك، ولكن وفاتهما في سنة ستين ومائة، وأما جحا فاسمه نوح”.
ويرجح النجار أن المتأمل لهذه الآراء يجد أن “جحا المحدّث (راوي الحديث) هو نفسه جحا صاحب النوادر، فالكنية واللقب كلاهما متشابهان وسنة الوفاة واحدة سنة 160 هجريا، وكلاهما كيس فطن، وكلاهما له باع مشهور في دنيا المزاح”.
ويخلُص إلى أن “أوجه التشابه أكثر من أوجه الخلاف … مما يؤكد أنهما شخصية واحدة لا شخصيتان. والحق لا أدري كيف أجاز هذا الأمر على القدماء غير الحرج في نسبة المتحامق إلى أحد رواه الحديث (مما يشكك فيما يروى عنه من أحاديث)، واستغلوا الخلاف على الاسم في التفريق بين الجحوين”.
وعلى الرغم من تفاوت التفاصيل الشخصية وتضارب الآراء بين المؤلفين القدماء، إلا أنها تؤكد أن جحا شخصية حقيقية لها ملامحها في واقع تاريخي، حتى وإن عجز القدماء على البت في الأمر وحسم الخلاف بينهم، فالأمر له مغزاه في مجال المأثور الشعبي، بغض النظر عن امتداد جذورها التاريخية، وطمس ملامحها الحقيقية.
ويقول النجار: “هذا ما حدث تماما مع الرمز الجحوي، إذ لم تختلف المصادر القديمة في حقيقة وجوده من الناحية التاريخية، ومن ثم أصالته التراثية من الناحية الفنية، وإنما الخلاف كان حول ما نُسب إليه من ذكاء إذا اعتبرناه محدّثا، أو ما نسب إليه من غباء إذا اعتبرناه صاحب نوادر”.
ويضيف: “أما وقد اختلط الأمر على القدماء، فقد بات بمقدور المبدع الشعبي أن يجمع بين صفاتهما المميزة دون مساءلة من جانب التاريخ، الأمر الذي حسمه بالفعل الضمير الأدبي أو الوجدان الشعبي من أمد بعيد، عندما لم يشأ أن يفرق بينهما، فجعل منهما – من الناحية التعبيرية – نموذجا فنيا واحدا هو جحا فحسب، تتسم شخصيته الفنية بالجمع بين هذين البعدين المتناقضين، الذكاء والغباء”.
جحا التركي
ظهرت شخصية خوجه نصر الدين الرومي في تركيا، بحسب أرجح الدراسات، في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وكان، بحسب دراسة فراج، صاحب علم وموعظة، ويجمع بين الحمق والتحامق، فتناقل الناس نوادره، ولقبوه جحا، وأقام الأتراك له مقبرة وجمعوا نوادره في مؤلفات.
بيد أن النجار يسعى إلى رسم ملامح شخصية جحا التركي، التي لم تسلم هي الأخرى من تضارب الآراء قائلا: “الرأي الأول يراه رجلا متعلما عاش في زمن هارون الرشيد متفقا بذلك مع الرواية التي تؤرخ لجحا العربي، وهو رأي متأثر بالرمز العربي تاريخيا، بينما الرأي الثاني يراه معاصرا للسلطان علاء الدين في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الميلاديين”.
ويضيف: “الرمز التركي استقطب الكثير من نوادر سلفه الرمز العربي التي وصلت إليه عبر وسيط فارسي… بهذا نستطيع أن نضع يدنا على مفتاح هام في دراستنا لتأثر وتأثير الرمز العربي في العالم التركي، فالحضارة السلجوقية أو التركية – التي عاصرها الرمز التركي- في أساسها متأثرة كل التأثر كما نعلم-بالثقافة الفارسية ثم الثقافة العربية، وهذا مما يؤكد لنا الرأي القائل باحتمال انتقال النوادر العربية إلى الرمز التركي سواء عن طريق الوسيط الفارسي أو من الحرب مباشرة”.
ويرى المؤرخ الفرنسي رينيه باسيه، وفقا لدائرة المعارف الإسلامية، أن الخلط بين الشخصيتين، العربي والتركي “نشأ من أن كتاب نوادر جحا الأولى قد تُرجم إلى التركية في القرن التاسع الهجري أو العاشر الهجري، وأن هذه النسخة التركية التي اقتبست وتوسعت قد تُرجمت بدورها إلى اللغة العربية في القرن الحادي عشر الهجري”.
ويلاحظ المدقق في الأحداث المنسوبة لخوجه نصر الدين الرومي وجود تضارب في تواريخها مع أبطال شخصياتها، مثل نادرة مذكورة مع جنكيز خان الذي عاش في القرن السادس الهجري ومات سنة 624 هجريا، بحسب دراسة فراج، ونوادر حدثت مع تيمور لنك الذي ولد سنة 737 هجريا ومات سنة 807 هجريا، في حين أنهم يؤرخون للخوجه نصر الدين الرومي بأنه ولد سنة 605 هجريا وتوفي سنة 683 هجريا.
ويضيف: “معنى هذا أنه حينما مات جنكيز خان كان سن خوجه نصر الدين الرومي تسعة عشر عاما، ويُستبعد حينئذ أنه اتصل بجنكيزخان. ومعنى هذا أيضا أنه مات قبل أن يولد تيمور لنك بحوالي خمسين عاما على الأقل”، ويضيف فراج مازحا :”من الممكن أن نتصور شخصا اتصل بالطاغيتين إذا وافقنا على أنه عاش مائتي عام”.
وينسب الأتراك لجحاهم الكثير من الكرامات، ويتبين ذلك من الاهتمام التركي ببناء ضريح يتبرّك به الكثيرون، ويقولون “من زاره ولم يضحك لن يسلم من بلية تصيبه”.
ويصف عباس محمود العقاد في كتابه “جحا الضاحك المضحك”، جحا التركي بشخصية غير منقولة عن الأمم الأخرى، ويقول: “خوجه نصر الدين المشهور بكراماته وكرامات ضريحه في مقبرة (آق شهر) بعد وفاته بزمن طويل، يذكر الناس أضاحيكه منها ومنهم يحيلونها إلى حالات أهل الجذب بين عالم الأسرار وعالم العيان، أو يحيلونها إلى حب التقية والاحتيال في الموعظة الحسنة بالأسلوب الذي يؤدي إلى مرماه، ويعفيه من عقباه”.
وتقول دائرة المعارف الفرنسية “Universalis” في مادة “NASREDDIN KHODJA” إن خوجه نصر الدين “اشتهر في جميع أنحاء تركيا وإيران وأفغانستان، وهو معروف باسم مُلا نصر الدين … نُشرت نوادره أول مرة باللغة التركية في نهاية القرن الخامس عشر، وهي مستوحاة من قصص جحا العربية”.
وتضيف أن قصص النموذج التركي “لا تخلو من تأثيرات هندية وفارسية وحتى اليونانية … ونُشرت على نطاق واسع وحظيت بشعبية كبيرة في دول البلقان وفي أوكرانيا ودول القوقاز وفي جميع أنحاء آسيا الوسطى، وخلال هذا التناقل خضعت هذه القصص لكثير من التغيير والتنوع”.
ونخلص إلى حقيقة أن جحا التركي نقل الكثير من النوادر العربية، بغض النظر عن إسنادها إلى جحا العربي أو غيره في كتب التراث، وأنه بقدر ما أخذ من جحا العربي، أخذ العرب بدورهم من نوادر جحا التركي، لاسيما تلك التي ورد فيها اسم تيمور لنك، وأن كلا الجحوين، العربي والتركي، أعطى كل منهما أبعادا جديدة للآخر بقدر ما نقلا من بعضهما، وربما ساعد في ذلك وقتها تبعية العرب لتركيا سياسيا، وتبعية الأتراك للعرب ثقافيا وحضاريا.
فيلسوف البسطاء والفكاهة
حرص التراث الشعبي العربي على رسم شخصية جحا بإيجابية ليست من سماتها السلبية أو الانطواء، جعله رجل بسيط من عامة الناس، له نفس مشاعرهم وتجاربهم، له نفس آمالهم وآلامهم، يسعى في حياته بحثا عن رزقه كما يسعى غيره، يتردد على الأسواق ويسافر بين المدن، يقابل الحكام ويتحدث مع عامة الشعب، رب أسرة صغيرة له زوجة وابن نشأ على حكمة أبيه لينقلها عنه عبر الأجيال، يمتلك حمارا يكاد يضعه في مرتبة الصديق الحميم يلقنه في أذنيه فلسفته ويصب عليه سخريته وسخطه من الحياة والبشر.
وُضعت شخصية جحا وفلسفته في قالب الناقد الاجتماعي، مما أكسبها نوع من المرونة والقدرة على تطوير نفسها ومسايرة الزمن وتخطي حدود المكان، فجمعت الشخصية بين حس الفكاهة والفلسفة على حد سواء، وأصبح جحا متحدثا بلسان البيئة العربية في كل شؤون الحياة، ونهض بدور الفيلسوف والحكيم والفقيه والناقد لواقع حياته الرمزية، ناقلا تجربته الاجتماعية بفكاهة وجد فيها الجميع ضالتهم عبر العصور.
و”الفكاهة” من الكلمات التي حار الباحثون في وضع تعريف دقيق لها، والسبب في ذلك، بحسب دراسة شوقي ضيف “الفكاهة في مصر”، كثرة الأنواع التي تتضمنها واختلافها فيما بينها، إذ تشمل “السخرية واللذع والتهكم والهجاء والنادرة والدعابة والمزاح والنكتة والتورية والهزل والتصوير الساخر الكاريكاتوري”.
وإن كانت السخرية أرقى أنواع الفكاهة، لما تحتاج من ذكاء ومكر، فإن النادرة (وجمعها نوادر) تعبر عن الخبر القصير أو القصة القصيرة التي تضحك، وفي العادة تكون مكتوبة، وكتب الأدب العربي تمتليء بنوادر كثيرة، بحسب تعبير ضيف.
ذابت شخصية جحا في الذاكرة الشعبية حتى أصبحت مضربا للأمثال، تُستحضر كأداة للتعبير في لغة الحياة اليومية المعاصرة، لوصف حالة نفسية مستوحاة من نوادر تحمل دلالة فلسفية، تناقلتها الأجيال عبر قرون في مخزونها اللغوي المتوارث، نذكر بعضها في لغة الحياة المصرية على سبيل المثال:
“جحا أولى بلحم ثوره” (للدلالة على أحقية شخص في شيء ما بعد اجتهاد).
“زي مسمار جحا” (للدلالة على الشخص المتطفل دون وجه حق).
“قالوا ودنك (أذنك) منين يا جحا” (للدلالة على المراوغة والمماطلة في شيء).
“عد غنمك يا جحا، قال واحدة قايمة وواحدة نايمة” (للدلالة على وضوح عدم توافر شيء بكثرة).
ويقول أحمد الحوفي في دراسته “الفكاهة في الأدب: أصولها وأنواعها”: “التهكم في الأدب لون من ألوان السخرية المتفلسفة أو الفلسفة الساخرة، ومن هنا كان التهكم الاجتماعي صورة من نظرة صائبة إلى الحياة والأحياء، وإشعاعا من مزاجه وفكره، وهو في الوقت نفسه صورة للمجتمع الذي يتهكم به الساخر… على أن التهكم قد يعتمد على المبالغة، كما يعتمد على المفارقة والجمع بين النقيضين لإبراز المعالم وتجسيم الصورة”.
ويحدد عبد الحميد يونس في دراسته “دفاع عن الفلكلور” أبعاد شخصية جحا بأنه لم يكن “مخبولا أو ناقص عقل، ولكنه كان يتناول الأمور من أقرب الزوايا إلى الحق والواقع، فيبدو مناقضا لصنيع الآخرين الذين لا يتصورون الحق قريبا ويمدون أبصارهم وبصائرهم إلى بعيد، كما أنه كان صريحا غاية الصراحة في التعبير عن نفسه، لا يشغل باله بأن الإطار الاجتماعي كثيرا ما يفرض على الناس أن يسكتوا أو يرمزوا…وهذه الفلسفة الخاصة به تجعله دائما بريئا من الخوف والكبت وتبرزه أقوى من غيره”.
بدون شك جمعت شخصية جحا بين واقع تاريخي عززه واقع أدبي أضفى على الوجدان الشعبي دلالة فنية وشعورية جعلت من المأساة منبعا للملهاة، هكذا استطاع جحا، الواقع والخيال، أن يكابد الحياة عبر قرون، خالقا لنفسه شخصا آخر مغايرا للأول، يشاهده ويسخر منه، في مضادة نُسجت داخل قوالب إبداع شعبي جعلته في مرتبة الحكيم وفيلسوف البسطاء على مر العصور.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.