وأكدت البيانات الأخيرة الصادرة في طوكيو حجم التحديات الملموسة التي يواجهها الاقتصاد الياباني، حيث تراجع واضح في أداء الاقتصاد خلال الربع الثالث من 2023 بوتيرة أعلى من التوقعات، في سياق تعاف هش بعد الأثر الكبير الذي خلفه وباء كورونا.
تسلط تلك البيانات الضوء على التحديات التي يواجهها الاقتصاد الياباني في الفترة الحالية. بينما كانت الفترة الأولى من العام قد شهدت انتعاشاً واعداً، إلا أن هذا الزخم لم يستمر، تحت وطأة عديد من العوامل المؤثرة، ورغم الإجراءات التحفيزية التي تتخذها الحكومة لمعالجة الأزمة.
وبينما تذهب التوقعات إلى انكماش ثالث أكبر اقتصاد في العالم مجددا بالربع الرابع؛ تشير البيانات إلى أن التعافي أضحى أكثر هشاشة مما كان يعتقد سابقًا؛ ما يجعله بحاحة إلى دعم مستمر من الحكومة وبنك اليابان المركزي.
ووسط هذا الوضع تبرز معضلة يواجهها الاقتصاد الياباني ما بين الحاجة إلى تحفيز النمو والحد من الدين العام، الذي يعد الأعلى في العالم نسبة للناتج المحلي الإجمالي.
انكماش
كشفت البيانات الرسمية الصادرة في اليابان أخيراً عن انكماش الاقتصاد في الربع الثالث، وذلك بوتيرة أعلى من التوقعات، وبما يدفع بضرورة استمرار الدعم من بنك اليابان والحكومة من أجل تحفيز الاستهلاك.
- جاء الانكماش بدفع من انخفاض الإنفاق التجاري، علاوة على عدم تعافي الإنفاق الاستهلاكي بالبلاد.
- نسبة الانكماش وصلت إلى 2.1 بالمئة على أساس سنوي.. فيما كانت التوقعات تشير إلى 0.6 بالمئة فقط في الربع الثالث.
- تسلط هذه النسبة الضوء على “هشاشة” التعافي الاقتصادي في اليابان بعد وباء كورونا.
- كما أن معدلات الانكماش الحالية تعقد كذلك جهود بنك اليابان من أجل إنهاء التدابير التيسيرية.
وخلال الستة أشهر الأولى من العام شهد اقتصاد طوكيو انتعاشاً مدفوعاً بطفرة الصادرات (لا سيما صادرات السيارات) فضلا عن عودة التدفقات السياحية، فيما حذر اقتصاديون من أنه بدأ يفقد زخمه في ظل ضعف الين، علاوة على أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة، وبما انعكس على معدلات الاستهلاك المحلي.
اقتصاد مختلف
من جانبه، يلفت كبير الاقتصاديين في شركة ACY المالية في أستراليا، نضال الشعار، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إلى أن دولة اليابان واقتصادها يختلف عن أغلب دول العالم بما فيها الاتحاد الأوروبي والأميركيتان ودول أخرى.
ويضيف بأنه قد يتشابه بعض الشيء مع الاقتصاد الصيني أو نظيره الكوري الجنوبي، ولكن يختلف من ناحية جوهرية وهي الأرضية المجتمعية لليابان التي تختلف من حيث:
- التماسك والانصياع للسياسات الحكومية.
- وحدة الرأي.
- العناد في بعض الأحيان على أمور اقتصادية معينة مثل ثبات الأسعار والأجور في اليابان.
- استقرار اليابان فيما يخص ارتفاع الأسعار وزيادة الأجور.
ويشير إلى أن اليابان من أول الدول التي انتهجت السياسات النقدية التيسيرية من حيث شراء السندات والديون حتى القطاع الخاص، وهي حالياً تتبنى خططاً لتحفيز الاستهلاك الذي انخفض مستواه في الفترات الماضية مثلما حدث في العام 2008.
ويرى أن “سياسة التيسير الكمي كانت ناجحة من 2008 إلى 2009.. مثل هذه السياسات لابد أن تتعثر في يوم من الأيام إذ لا يمكن لأي بلد أن تنتهج سياسة وحيدة وتستمر فيها إلى ما لا نهاية.. وبالتالي كان لابد من بدء تعثر السياسات التيسيرية بشكل خاص ابتدءاً بما حدث في جائحة الكورونا مروراً بالحرب في أوكرانيا وبما أدى إلى ارتفاعات أسعار الطاقة”.
كل هذه التحديات لم تكن السياسة التيسيرية مستعدة لاستيعابها بشكل كامل، كما كانت مستعدة في الأزمة المالية عام 2008 أو بداية العام ـ2000 في أزمة الإنترنت.
ويذكر أن اليابان حالياً في مرحلة تواجها خلالها عقبات داخلية وخارجية. بالنسبة للعقبات الداخلية، فتتمثل في ضعف الاستهلاك مع بداية ارتفاع في الأسعار، وانخفاض سعر صرف الين الياباني، وهو أهم عامل، فقد يكون إيجابياً في تحفيز الصادرات ولكنه سلبي من حيث الواردات؛ كون اليابان تستورد جزءاً كبيراً من المواد الخام لاستخدامها في الصناعات.
وتباطأت الصادرات نتيجة تباطؤ الاقتصاد الصيني وكذلك تباطؤ الاتحاد الأوروبي وهما شريكان مهمان جداً لليابان، الأمر الذي انعكس على مستوى النمو، وهو ما ظهر في آخر ربع اقتصادي لليابان، والذي سجل انخفاضاً بنسبة كبيرة، وهذا قد يستمر للربع الرابع وسنرى النتائج في أول السنة.
ويضيف: “حالياً هناك لمتغيرات جديدة لتسهيلات من قبل الحكومة اليابانية ممثلة بالمصرف الياباني المركزي، الذي هو مستقل اسميا ولكن فعلياً غير مستقل بشكل يماثل استقلال الفيدرالي الأميركي، لكنه يتماهى مع سياسات الحكومة أو مع توجهات مكتب الوزراء (رئاسة الوزراء).. هناك تصريحات عن التحكم في منحنى العائد، وهذا شيء جديد فيما يخص الاقتصاد الياباني، فمنحنى العائد في اليابان يتميز بمستوى فائدة منخفضة جدًا وسالبة، وهناك توجه للتخلص من أسعار الفائدة السالبة ومحاولة رفعها قدر الإمكان، بالطبع لن تجاري أسعار الفائدة في أوروبا وأميركا، ولكنها خطوة في تغيير نهج التيسير الكمي، الذي اتخذته اليابان في الفترات السابقة”.
أما فيما يتعلق بالعقبات الخارجية، فتتمثل في كون اليابان شريك مهم للصين، والصين حاليًا تعاني اقتصاديًا، كما أنها شريك مهم للولايات المتحدة الأميركية، والتي من المتوقع أن تدخل في حالة ركود قد يكون ناعماً، وهذا سيؤثر على مستوى طلب السلعة اليابانية، وأسعار الطاقة التي تعتمد عليها اليابان بشكل كبير، ذلك أنها دولة غير منتجة للطاقة، وبالتالي أي هزة كما يحدث حالياً في الشرق الأوسط قد تتسبب في ارتفاع أسعار النفط، ومن ثم يؤثر على مستوى الصناعات في اليابان
تراجع الاستثمارات
“الشيء الأخر الذي حدث هو انخفاض عمليات الاستثمار في اليابان من قبل الأجانب والشركات اليابانية، التي عادة ما تكون في توسع مستمر، ولكن حاليا هذا لم يحدث بنفس الوتيرة السابقة.
ويرى أن هناك عدة عوامل تضافرت لتضع اليابان في محنة اقتصادية ليس لها السيطرة الكلية عليها كونها عبارة عن خليط من عقبات وموانع اقتصادية داخلية وخارجية، ما يمنعها من إدارتها بشكل ناجع، غير أنها في الأخير فترة وستمر؛ نظرا لتماسك الأرضية المجتمعية باليابان وطريقة تعاملهم مع القرارت الحكومية، إضافة إلى طريقتهم في الإنتاج والابتكارات، التي ربما انخفضت في القترة السابقة ولكنها ستعود مرة أخرى.
ورغم أن الشعار يصف ما تمر به اليابان بأنه فترة صعبة، غير أنه يستبعد أن تكون اليابان مهددة بحالة ركود أو انتكاسة اقتصادية كبيرة، مشدداً على أنها ستخرج من هذه المحنة معافاة وتعود إلى مركزها الثالث في العالم من حيث القوة الاقتصادية والابتكارات والنمو بشكل عام.
ويشدد على ضرورة تقليص الفرق في أسعار الفائدة مع أوروبا وأميركا تدريجياً مع مرورر الوقت، وهذا يستدعي اتباع سياسة نقدية جديدة غير النهج النقدي الذي تتبعه منذ سنوات ومن ضمنها التحكم بمنحنى العائد، والتخلص من أسعار الفائدة السالبة، وبشكل خاص إذا تزامن هذا مع ارتفاع أسعار الطاقة وأعادنا إلى دوامة التضخم من جديد، وهذا قد يحدث، وبالتالي ستضطر المصارف المركزية الأخرى لرفع فائدتها للتخفيف من حدة التضخم، وهنا سيكون الفرق أوسع، ومن ثم لا بد لليابان أن تستوعب هذا الفرق في أسعار الفائدة.
خطط تحفيزية
وكانت الحكومة اليابانية قد أعلنت في وقت سابق الشهر الجاري، عن خطة تحفيز بقيمة 113 مليار دولار، بغرض معالجة الضرر الناجم عن ارتفاع معدلات التضخم بالبلاد، وذلك من خلال تخفيضات مؤقتة على الدخل والضرائب السكنية وتقديم المنح النقدية للأسر ذات الدخل المنخفض.
ينظر عديد من الاقتصاديين إلى تلك الخطط التحفيزية على اعتبار أنها تقدم دفعة “مؤقتة” للاقتصاد الذي يواجه مزيجاً من التحديات المختلفة واسعة النطاق.
والشهر الماضي، عدّل بنك اليابان سيطرته على عائدات السندات مرة أخرى الثلاثاء، من خلال إعادة تعريف نطاق الـ 1 بالمئة على أنها “الحد الأعلى” مع وجود مساحة للمخصصات، بدلاً من سقف صارم.
كما قرر بنك اليابان الإبقاء على معدلات الفائدة دون تغيير في المنطقة السالبة عند -0.1 بالمئة، متماشيا مع التوقعات. ورفع توقعاته للتضخم للسنوات المالية 2023، و2024، و2025.
وضع محير
ومن لندن، يقول الرئيس التنفيذي في مركز كوروم للدراسات، طارق الرفاعي، إن وضع الاقتصاد الياباني وضع محير جداً؛ لأن بنك اليابان هو البنك الوحيد إلى الآن الذي لم يبدأ في رفع أسعار الفائدة، وفي نفس الوقت الين الياباني يتراجع، حيث انخفض إلى أدنى مستوى منذ قرابة 30 عامًا.
ويشير الرفاعي، إلى:
- الاقتصاد الياباني منذ 20 عاماً يواجه صعوبة في النمو المستمر؛ ما يعني أنه يمر بفترات نمو ثم فترات انكماش وركود، وهكذا كان الوضع خلال الـ20سنة الماضية.
- مشكلة الحكومة اليابانية أنها مديونة بأكبر نسبة من الديون لأي حكومة أخرى في العالم تقريباً.
- ومع ذلك إلى الآن لم نر نسبة التضخم ترتفع إلى المستويات الموجودة في أوروبا وأميركا وبسبب هذه الديون.
- البنك الياباني غير قادر على رفع سعر الفائدة؛ لأنه برفع سعر الفائدة حتى 1 بالمئة سنرى أزمة ديون في اليابان ومشاكل أخرى متراكمة وبسبب تدخل البنك المركزي الياباني في الاقتصاد.
- بنك اليابان لم يشتر فقط معظم الديون الحكومية في السوق ولكنه اشترى أيضاً معظم الأسهم اليابانية عن طريق صناديق الاستثمار.
- هذا التدخل المباشر في الاقتصاد هو ما أدى إلى الأزمة التي تواجهها اليابان الآن.
ويعتقد الرفاعي، بأنه لن يكون هناك أي رد فعل إيجابي بهذا الخصوص؛ لأن البنك خلال الـ10 سنوات الماضية مستمر بضخ سيولة في السوق، والآن وصل إلى مرحلة أن ضخ السيولة لن تتجه إلى النتائج المتوقعة، ومن ثم فإن “الوضع محير جداً، واليابان الآن في وضع حرج ومحتكر، وأعتقد بأنه لا يوجد في الأفق حل إيجابي في الاقتصاد الياباني”.
ويخلص الرفاعي إلى أن بنك اليابان محاصر وغير قادر على تغيير سياسته النقدية؛ كون أي تغيير في السياسة النقدية سيؤدي إلى أزمة ديون في طوكيو، غير أنه يرى أن ضعف الين سيؤدي إلى دعم التصدير والمنافسة للمنتجات اليابانية حول العالم وهذا بالطبع إيجابي.
حالة عدم يقين
وتضغط العوامل المرتبطة بتباطؤ الصادرات بالبلاد على اقتصاد البلاد الهش، وتفاقم الضغوط بثالث اقتصاد في العالم. حيث ارتفعت الصادرات بنحو 1.6 بالمئة طبقاً للبيانات الرسمية، مقارنة بـ 4.3 بالمئة في شهر سبتمبر.
ويشهد اقتصاد البلاد حالة من عدم اليقين، في وقت تفاقم فيه التحديات المرتبطة بالأجور، وفي ضوء ما تشهده من محدودية بالنمو مقابل التضخم وتراجع العملة، الإشكالات الداخلية.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.