مع تزايد تكاليف المعيشة وأسعار العقارات، تلجأ بعض الحكومات إلى فرض قيود على الإيجارات لحماية المستأجرين، كتحديد سقف للزيادات.
لكن تحديد حد أعلى لأسعار إيجار العقارات، سواء كانت تجارية أو سكنية، يعد قضية شائكة وجدلية في الأوساط الاقتصادية.
وفي استطلاع أجرته صحيفة “الاقتصادية”، أيد نحو 74 % من المشاركين تحديد سقف أعلى للزيادة السنوية في أسعار إيجارات القطاع السكني والتجاري في السعودية.
في حين رفض 26 % من المشاركين تحديد سقف أعلى للزيادة السنوية في أسعار الإيجارات.
استطلاع “الاقتصادية”، لم يكن إلا رد فعل تجاه الزيادات الباهظة في الإيجارات خلال الأعوام الماضية خصوصا في المدن الرئيسة في السعودية مثل الرياض والدمام وبريدة وجدة وأبها.
أسعار العقارات في السعودية واصلت الارتفاع منذ مطلع 2021، حيث إن الطلب على السكن يعد المحرك الرئيس لارتفاع الأسعار مع الطفرة الاقتصادية في البلاد وجذب عديد من الشركات التي يحتاج موظفوها إلى مساكن، إلى جانب برامج التمويل السكني الضخمة التي بلغت ذروتها عقب كورونا، مع استهداف رفع نسب تملك المواطنين لمساكنهم.
لكن وضع تحديد سقف لأسعار الإيجارات يثير تساؤلات حول تأثيرها في المستأجرين ومالكي العقارات، وقيمة الثروة العقارية، ونموها، وكذلك في الاقتصاد الوطني بشكل عام.
البعض يطالب بحل هجين يتم فيه ربط ضوابط للإيجار بحوافز لأصحاب العقارات ووضع معايير تكاملية بين الاستثمار والإيجار.
“الاقتصادية” تواصلت مع الهيئة العامة للعقار بشأن تحديد سقف لأسعار الإيجارات، إلا أن الهيئة لم تتجاوب مع استفسارات الصحيفة.
إيجارات المساكن
قال لـ”الاقتصادية” الدكتور يوسف الهاجري رئيس مجلس إدارة شركة مساكن هاجر العقارية: “لست مع أو ضد وضع سقف أعلى لإيجارات المساكن في السعودية، لكني اقترح وضع معايير تحدد قيمة الإيجار السكني مثل: المدينة، سعر متر الأرض، عُمر المبنى، تصنيف التشطيب، خدمات الصيانة والتشغيل، مواقف السيارات، نوع الشارع، عرض الشارع وغيرها من المعايير التي تساعد على منطقية التسعير الإيجاري وما يبنى عليه انخفاضا وارتفاعا”.
وأضاف أن “الهيئة العامة للعقار لديها القدرة على بناء هذه المنهجيات بسبب توفر المعلومات والبيانات العقارية وبإمكانها الاستعانة بالخبراء للتمكن من تحكيم وتجويد هذه المعايير وهي أيضا تساعد على تقييم العقار ابتداء”.
تأتي هذه المصفوفة من المعايير لتحافظ على استقرار ونمو الاقتصاد المحلي وتكامله مع المستثمرين والمستفيدين، حيث انضم لسوق التأجير السكني عديد من الأفراد في تملك الوحدات السكنية وتأجيرها اليومي والشهري والسنوي ما حقق استثمارا اقتصاديا لشريحة جديدة ليست مقتصرة على تجار العقار، بحسب الهاجري.
في حين أيد الرئيس التنفيذي لشركة أفعال العقارية سلطان الغنام، وضع سقف أعلى لإيجارات المساكن في السعودية، مشترطا وجود تقييم لكل عقار خلال 3 سنوات من قبل الجهة المشرعة على ذلك.
وأكد لـ”الاقتصادية”، أن مردود ذلك سيكون إيجابا على الاقتصاد المحلي، حيث سيسهم في ضبط الأسعار المتداولة حاليا وغير المنطقية سواء للمواطنين أو للمقيمين وذلك لمعرفة المصاريف المترتبة عليهم سنويا.
من جهته، قال المدير التنفيذي لشركة الغنام العقارية إبراهيم الغنام: “المسألة ليست تأييدا أو عدم تأييد، فالسوق العقارية التأجيرية كغيرها من الأسواق مرتبطة ارتباطا وثيقا بالعرض والطلب ولا يمكن التحكم فيها بأسعار محدده”.
وأضاف لـ”الاقتصادية”، “لكن أنا مؤيد لأن يكون السعر التأجيري بالعقد محدد بنسب ارتفاع محدده، مثلا ألا يزيد ارتفاع الإيجار بعد انتهاء العقد عن 10% كحد أقصى من العقد السابق ويكون فقط هذه الزيادة المحددة للمستأجر القديم وهكذا”.
الإيجارات التجارية
الدكتور ماجد الركبان المختص في القيادة التنظيمية في القطاع العقاري، أكد لـ”الاقتصادية”، أن وضع آلية تنظم الزيادة السنوية في الإيجارات التجارية بنسبة معينة أمر إيجابي لتحقيق توازن في المصالح بين المؤجرين والمستأجرين وعدم إلحاق الضرر بأطراف العملية التأجيرية، خصوصا أن المشاريع التجارية تأخذ سنوات حتى تحقق العائد المرجو منها وهذا يساعد على استقرار واستدامة القطاع العقاري والتجاري.
وأضاف أن أصحاب المشاريع التجارية خصوصا الصغيرة والمتوسطة يواجهون تحديات في عملية إدارة التدفقات النقدية نتيجة ارتفاع الإيجارات دون ضوابط من بعض المؤجرين، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى إلحاق خسائر بهم ومن ثم خروجهم من السوق نتيجة ارتفاع التكاليف.
وفند الركبان الآراء التي تدعي تأثير ذلك في النشاط الاقتصادي، مبينا أن التنظيم داعم لاستمرارية المشاريع التجارية ونموها وهو ما سينعكس بشكل إيجابي على القطاع العقاري واستدامته، وسيدعم استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية التي تتطلع إلى وضوح الرؤية في في حالة الرغبة في الاستثمار في السعودية.
في حين يرى عايد الهرفي رئيس مجلس إدارة شركة “إعمار المتقدمة”، أن ما تشهده السوق العقارية من ارتفاعات كبيرة في الأسعار، قد يؤدي إلى تبعات سلبية على قطاعات اقتصادية حيوية، الأمر الذي يقع ضرره بالغا على القطاع العقاري والاقتصاد الوطني.
وقال لـ”الاقتصادية”: “تعتمد السوق العقارية على العرض والطلب، حيث يعاني القطاع تضخما في أسعار الإيجارات، ولا بد من مواجهة هذا التحدي عبر معالجة السبب الرئيس الذي أدى إلى وقوع ذلك وهو نقص المعروض أمام تنامي الطلب وارتفاع الفجوة بينهما، وذلك بمواكبة الطلب المتنامي”.
وأضاف: “تحديد سقف للإيجارات هو أحد الحلول، لكن لن يكون مجديا في ظل نقص المعروض وقد يحد من جاذبية القطاع وتنافسيته، ويخلق مزيدا من التحديات، كما أنني لست مع هذا المقترح في ظل عدم وجود تشريعات وأنظمة كافيه لسوق الإيجارات”.
الهرفي أرجع أسباب ارتفاع الإيجارات عموما إلى نقص المعروض أمام تنامي الطلب، فالنمو السكاني يشهد ارتفاعا يقابله تباطؤ ملحوظ في النمو العمراني، إضافة إلى تأخر تسليم بعض المشاريع السكنية، وعدم وجود أنظمة وتشريعات كافية تنظم سوق الإيجارات فوجود منصة إيجار فقط ليس حلا كافيا.
من بين أسباب ارتفاع أسعار الإيجارات في القطاع التجاري تحديدا، زيادة عدد المنشآت الصغيرة والمتوسطة إلى 1.3 مليون منشأة صغيرة و متوسطة في السعودية بنهاية عام 2023 حسب آخر إحصائيات “مرصد منشآت”، وفقا لعايد الهرفي.
الهرفي أكد أن الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للعقار سبق أن تحدث في برنامج تليفزيوني في مارس 2023 عن تجارب تم الإطلاع عليها للحد من ارتفاع الإيجارات، حيث تقوم الهيئة بدراستها وستعلن عنها فور الانتهاء منها، مشيرا إلى وجود تحد بخصوص توفر بيانات دقيقة للقراءة الصحيحة للسوق، والحاجة للتوازن في تعديل الأسعار.
وأضاف: “وهنا تبرز تساؤلات عدة في ظل الارتفاع الكبير في أسعار الإيجارات مثل: هل تم الانتهاء من الدراسة والإعلان عنها؟ وما مصيرها؟، هل تم تطبيق شيء منها في الواقع؟ وما آثارها؟ وهل تم العمل على توفير بيانات دقيقة؟ وكيف يتم تحقيق التوازن لتعديل الأسعار؟”.
حرية السوق
الدكتور بندر السعدون العضو المنتدب للشركة الخليجية القابضة للاستثمار والتطوير العقاري، يرى أن السوق حرة وتخضع للعرض والطلب، ولا يمكن التدخل في وضع سقف للإيجارات.
وقال لـ”الاقتصادية”: “كنا نطالب بسقف أعلى للإيجارات السكنية لكن التجاري تخضع لقرار صاحب المشروع، حيث يفترض ألا يقدم عليه إلا بعد دراسة جدوى، خاصة بعد التنافس الحاصل بين الشركات، لذا أرى أن تكون الارتفاعات تصاعدية، أو تكون العقود بمدد طويلة وعدم إلزام المحال بعقد لمدة سنة واحدة”.
وأشار إلى أن الأسعار العالية للعقار التجاري قد يؤثر في دخول الشركات العالمية إلى السوق السعودية وبالتالي تضعف وتقل جاذبيتها.
التدخلات الحكومية
يشير مفهوم “سقف الإيجار” إلى الحد الأقصى الذي يمكن لمالك العقار تحصيله من المستأجر، وهو شكل من أشكال التحكم في الإيجار تُقره القوانين عادة.
تظل الحجة الأساسية لدعم سقف الإيجار هي توفير الحماية للمستأجرين من الزيادات الكبيرة وغير المتوقعة، ما يتيح لهم تخصيص جزء أكبر من دخلهم لاحتياجات أخرى مثل التعليم والصحة. أما في القطاع التجاري، فيسهم سقف الإيجار في خفض تكاليف الإنتاج، ما يعزز الربحية ويوسع النشاط الرأسمالي ويزيد من فرص العمل.
تؤكد الدكتورة راشيل أبوت، أستاذة التخطيط الاقتصادي في بريطانيا، أن مسألة سقف الإيجار تتجاوز الحجة التقليدية المتعلقة بحماية المستأجرين.
ولـ”الاقتصادية” توضح أن “الأمن السكني يعد أمرا بالغ الأهمية للأسر ذات الدخل المحدود، حيث قد لا يكون لديهم القدرة على دفع الإيجار. كما أن هذا الأمر شديد الأهمية أيضًا لصغار رجال الأعمال، إذ يمثل الإيجار أحيانًا العبء الأكبر في تكاليف إنتاجهم”.
تقليص الفجوة الاقتصادية
راشيل أبوت قالت: “يمكن أن يسهم الحد من زيادات الإيجار في تقليل معدلات النزوح الداخلي، ما يحافظ على النسيج الاجتماعي ويمنع التأثيرات السلبية المرتبطة بالانتقال نتيجة الضغوط الاقتصادية. كما يمكن النظر إلى سقف الإيجار كوسيلة لإعادة توزيع الدخل، حيث يستفيد المستأجرون الأقل ثراء على حساب أصحاب العقارات، ما يسهم في تقليص الفجوة الاقتصادية، خاصة في المجتمعات ذات التفاوت الكبير في الدخل”.
وترى أن سقف الإيجار يمنح المستأجرين قدرة أكبر على التنبؤ بتكاليف السكن، ما يسمح لهم بالتخطيط المالي بشكل أفضل على المدى الطويل، ويساهم في تقليل الضغوط الاقتصادية وتحقيق الرفاهية العامة.
هذه الحجج تواجه تحديات كبيرة عند تطبيقها عمليا، حيث إن سقف الإيجار قد يوفر دعمًا قصير الأمد للمستأجرين الحاليين، ولكنه على المدى الطويل يتسبب في الإضرار بالقطاع العقاري ويزيد من تعقيداته، سواء في العقارات السكنية أو التجارية.
عادةً ما يتم تثبيت الإيجارات دون النظر إلى مستوى دخل المستأجرين، ما يجعل الصورة غير واقعية. ورغم أن الهدف الأساس هو دعم الأسر ذات الدخل المحدود وصغار رجال الأعمال، فإن المستفيدين الحقيقيين عادةً ما يكونون الأثرياء والشركات الكبرى التي تستطيع دفع مبالغ أعلى بكثير مما يحدده سقف الإيجار.
الاستثمار العقاري وتشوهات السوق
ديبي دان، وكيلة عقارية في لندن، ترفض بشدة تحديد سقف للإيجار، معتبرة أنه يثبط الملاك عن الاستثمار في عقاراتهم، ما يؤدي إلى تراجع جودة المساكن المتاحة وخلق نقص في الوحدات العقارية، سواء للسكن أو للأعمال التجارية. وتؤكد دان أن سقف الإيجار يمكن أن يؤثر سلبا في الإسكان ميسور التكلفة، حيث يتراجع عرضه ويتردد الملاك في صيانته.
ولـ”الاقتصادية” تقول: إن “التحكم في الإيجار يؤدي إلى تشوهات في السوق العقارية، حيث يحتفظ المستأجرون بوحداتهم العقارية الخاضعة لسقف الإيجار حتى لو تغيرت احتياجاتهم السكنية، ما يسبب استخداما غير فعال للمساحة. ويظهر بسبب ذلك سوق سوداء، وتحدث معاملات مالية غير رسمية بين المالك والمستأجر، والخاسر الأكبر النظام الضريبي. وعادةً يصبح الملاك أكثر انتقائية في اختيار المستأجرين، ما يزيد من احتمالات التمييز ضد فئات اجتماعية معينة”.
يرى المعارضون لفكرة سقف الإيجار أنه مع مرور الوقت، تزداد التشوهات في السوق العقاري، حيث ترتفع معدلات الشواغر وتصبح هناك فجوة كبيرة بين الإيجارات السوقية والإيجارات المحددة، ما يقلل من كفاءة السوق العقاري بشكل عام.
التأثير على الاقتصاد الوطني
يعتقد بعض الخبراء أن تأثير سقوف الإيجار يمتد إلى ما هو أبعد من المستأجرين الأفراد وأصحاب العقارات، ليؤثر في الاقتصاد الوطني بشكل عام. فتشوهات السوق الناجمة عن تجاوز الطلب للعرض تؤدي إلى ارتفاع الأسعار في القطاعات غير المنظمة، ويتجلى هذا التأثير بشكل خاص في العقارات التجارية، حيث تجد الشركات صعوبة في العثور على مساحات بأسعار معقولة في المواقع الرئيسة.
الباحث الاقتصادي مايك إليستر أشار في حديثه لـ”الاقتصادية” إلى أن الرقابة على الإيجارات تقلل من مرونة المستأجرين، ما يدفعهم للبقاء في وحداتهم لفترات أطول مقارنة بما كانوا سيفعلونه في غياب سقف للإيجار، وهو ما قد يحد من قدرة أفراد الطبقة العمالة على الانتقال بحثا عن فرص عمل أفضل.
ويقول: “بالطبع ستعزف الاستثمارات الأجنبية عن القطاع العقاري، ومع عدم جاذبية القطاع لرؤوس الأموال المحلية، سنواجه أزمة في المعروض تتطلب تدخل الدولة بضخ استثمارات إضافية، ما يشكل عبئا على الميزانية العامة يمكن تجنبه بتغيير القوانين المنظمة للعلاقة بين المالك والمستأجر”.
يضاف لذلك مخاوف من أن تؤدي سقوف الإيجار إلى خنق النمو العقاري والاقتصادي بمرور الوقت، حيث يؤدي نقص المساحات التجارية بأسعار معقولة إلى منع الشركات الجديدة من دخول السوق، مما يؤدي إلى انخفاض فرص العمل وتراجع الديناميكية الاقتصادية، بحسب إليستر.
البحث عن حلول
تدفع هذه المخاوف ببعض الخبراء إلى البحث عن حلول قادرة على حماية مصالح المستأجرين والملاك مع ضمان نمو القطاع العقاري.
الدكتورة فلورا أندرسون، أستاذة الاقتصادات الناشئة، علقت لـ”الاقتصادية” قائلة: “النهج الهجين ربما يكون أكثر فاعلية، حيث يتم ربط ضوابط الإيجار بحوافز لأصحاب العقارات للاستثمار في عقاراتهم مثل الإعفاءات الضريبية، والإعانات، أو القروض الميسرة لتحسين جودة العقارات وتخفيف التأثيرات السلبية لسقوف الإيجار”.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.