- ريم الشيخ
- بي بي سي نيوز عربي
وفي مقاله علق إغناشيوس على الاختراق الدبلوماسي الذي حققته الصين بالتوسط بين إيران والسعودية، واستشهد أيضاً بأقوال لوزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر، الذي قال له في وقت سابق، إن الولايات المتحدة لم تعد تلك القوة الوحيدة التي لا يمكن الاستغناء عنها في المنطقة، إذ أن الصين أصبح لديها من القوة، ما يؤهلها للمشاركة في صنع نظام عالمي جديد، بحسب كيسنجر.
وفي مطلع الشهر الجاري، وبعد زيارته للصين، خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتصريحات أثارت جدلا كبيراً، إذ أكد ماكرون على ضرورة ألا تصبح أوروبا تابعة للولايات المتحدة، ليعلق لاحقاً رئيس المجلس الأوروبي على هذه التصريحات بالقول:” قادة الاتحاد يميلون لتوجه ماكرون بشأن الاستقلالية الاستراتيجية عن الولايات المتحدة”.
وأثارت خطوات الصين الدبلوماسية الأخيرة، وإعلانها عن رفع ميزانيتها العسكرية للعام 2023 من أجل التطوير، تساؤلات عديدة بين مراقبين بشأن إمكانية أن تصبح الصين قطبا موازيا للولايات المتحدة.
فكيف وصلت الصين إلى ما هي عليه الآن، وما هي أدواتها المستخدمة لتعزيز مكانتها العالمية؟
القوة الاقتصادية
قبل واحد وخمسين عاماً، وتحديداً في الـ 21 من فبراير شباط 1972، صُدم العالم بزيارة تاريخية عرفت لاحقاً بـ “الأسبوع الذي غيّر العالم”.
زار الرئيس السابع والثلاثون للولايات المتحدة، ريتشارد نيكسون، جمهورية الصين الشعبية، منهياً بذلك قطيعة لأكثرمن عقدين بين البلدين، ومؤسسا لاستئناف العلاقات الدبلوماسية في عام 1979.
وخلال السنوات الماضية أصبحت البلاد ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، و”مصنع العالم” وأكبر مُصدّرٍ للعديد من المنتجات الرئيسية، مثل الأجهزة الإلكترونية والملابس والأدوات الكهربائية والأجهزة الطبية والسيارات.
وارتفعت قيمة الناتج المحلي الإجمالي من 1.34 تريليون دولار أمريكي عام 2001 -وهو عام انضمام الصين رسمياً لمنظمة التجارة العالمية- إلى 17.73 تريليون دولار أمريكي عام 2021 وفق بيانات صندوق النقد الدولي، ويدل هذا الرقم على القوة الاقتصادية المتزايدة للصين إذا ما قورن بالناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة البالغ 23.32 تريليون دولار أمريكي عام 2021.
وطالما كان تدني أجور الأيدي العاملة ومهارتها الحرفية مركز جذبٍ لكثير من الاستثمارات الأجنبية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن أكبر مصنع لهواتف آيفون من شركة آبل الأمريكية يعمل من داخل الصين، أضف إلى ذلك أن الصين تعد أكبر شريك تجاري لكثير من دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة بحجم تبادل تجاري تخطى الـ 400 مليار دولار أمريكي عام 2022.
مشروع إحياء طريق الحرير
في عام 2013 عندما أصبح شي جين بينغ رئيساً للصين، جاء الرجل حاملاً في جعبته أكثر السياسات الخارجية طموحاً.
إذ أعلن بينغ عن نيته بإحياء طريق الحرير الأصلي القديم من خلال مبادرة استراتيجية تنموية حملت اسم “مبادرة الحزام والطريق”.
وهذه المبادرة التي أنفقت عليها الصين المليارات حتى الآن، هي مشروع بنية تحتية ضخم يهدف إلى توسيع روابط الصين التجارية؛ من خلال بناء الموانئ والسكك الحديدية والمطارات والمجمعات الصناعية داخل نحو سبعين دولة شاركت بها من آسيا و إفريقيا والوطن العربي وغيرها، لتربط -عند اكتمالها- الصين بالقارة الأوروبية عبر طرق برية وبحرية.
يقول أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا إبراهيم فريحات لـ بي بي سي: ” إن الصين يمكن أن تلعب دوراً سياسياً أمنياً على المستوى الإقليمي والدولي في حال نجحت في بناء طريق الحرير الجديد”، لكن فريحات يستبعد أن يكتمل هذا المشروع على المدى القريب نظراً لضخامته التي تتطلب فترة زمنية طويلة.
وعن قوة الصين الاقتصادية المتسارعة، يوضح الصحفي المختص بالشأن الأمريكي والعلاقات الدولية إيهاب عباس أهمية دور الميزان التجاري بين البلدين وتأثيره عليها: ” إن الميزان التجاري بين الصين والولايات المتحدة يميل لمصلحة الصين بواقع مئات المليارات، وهذا يعني أن القوة الاقتصادية الصينية لها تأثير على الداخل الاقتصادي الأمريكي بشكل أكبر من تأثير الاقتصاد الأمريكي على الداخل الصيني، بالرغم من اختلاف حجم الاقتصاد لكلا البلدين”.
القوة العسكرية
يحتل جيش التحرير الشعبي المرتبة الثالثة على مستوى أقوى جيوش العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا وفق مؤشر “غلوبال فاير باور” لعام 2023، والذي يستخدم أكثر من 60 عاملا لتصنيف الجيوش.
كما أن الجيش الصيني هو الأكبر من حيث العدد، إذ يصل عدد القوات إلى 1.6 مليون جندي، والثاني من حيث الميزانية بعد الولايات المتحدة.
ومنذ تولي شي جين بينغ مقاليد الحكم، بدأت عملية تطوير وتحديث الجيش بشكل متسارع، إذ يطمح الرئيس الصيني إلى تحويله إلى “قوة من الطراز العالمي” بحلول عام 2049، في الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.
تمكنت الصين أيضاً، من تجاوز الولايات المتحدة لتصبح أكبر قوة بحرية في العالم من حيث عدد السفن الحربية، إلا أن مراقبين يرون أن هذا التفوق البحري يقتصر على الحجم بواقع 730 وحدة بحرية صينية مقارنة بـ 484 وحدة بحرية أمريكية.
ولكن الولايات المتحدة تحتفظ بتفوق كبير في العديد من القدرات البحرية، إذ لديها 11 حاملة طائرات مقابل حاملتين للصين. كما تتفوق في أعداد الغواصات والمدمرات والطرادات والسفن الحربية الكبيرة العاملة بالطاقة النووية.
وفي سباق الصواريخ فرط الصوتية، فقد أجرت الصين مئات التجارب على الصواريخ الباليستية فرط الصوتية، التي يصعب على أنظمة الدفاع الجوي رصدها وتعقبها بسبب سرعتها التي تفوق سرعة الصوت بخمس مرات على الأقل، وقدرتها على المناورة وتغيير المسار.
وعن قدرة القوة العسكرية الصينية في منافسة القوة الأمريكية يقول الباحث في الشؤون الآسيوية من بكين حسين اسماعيل: “يمكن أن تتساوى القوة الصينية بالقوة الأمريكية خلال السنوات القليلة القادمة، فسرعة التطور والتحديث في المنظومة العسكرية الصينية فاقت الولايات المتحدة وحتى بعض الأطراف الدولية”.
ويشير اسماعيل إلى أن القوة العسكرية الصينية هي قوة متمركزة في مناطق مصالحها الإستراتيجية -منطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ- في حين أن القوة الأمريكية منتشرة في أنحاء العالم، وهو ما يعطي الصين ميزة في حالة وقوع مواجهة عسكرية في مناطقها الحيوية في المحيط الهادئ وجزيرة تايوان.
الترسانة النووية
تمتلك الصين نحو 350 رأسا نوويا، والحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان هي أن الصين ما زالت متأخرة جداً عن بلوغ مستوى المخزون النووي الأمريكي الذي يحتوي على 5,500 رأساً نووية، بحسب الأرقام التقريبية.
إلا أن تسارع وتيرة التسلح النووي الصيني أثارت حفيظة الولايات المتحدة، التي تتوقع أن تضاعف الصين حجم ترسانتها النووية ثلاث مرات بحلول نهاية العقد الحالي، لتمتلك نحو 1500 رأس نووي بحلول عام 2035.
وتصف الصين تلك الادعاءات الأمريكية بأنها “محض تكهنات متهورة ومتحيزة”.
ومع كل تلك القدرات العسكرية للصين، إلا أنه يجب أن نتذكر أن الصين لم تخض حرباً منذ عام 1979، عندما تدخلت في فيتنام، ولذا فإن قدراتها العسكرية غير مجربة إلى حد كبير. يقول الصحفي المختص بالشأن الأمريكي والعلاقات الدولية إيهاب عباس: “امتلاك دولة لعدد -ولو قليل- من الرؤوس النووية يعني أنها قوة كبيرة، فتلك الرؤوس القليلة ذات القوة التدميرية الحديثة يمكن أن تدمر العالم في لحظات قليلة”.
ويرى أستاذ تسوية الصراعات الدولية والعضو السابق في لجنة خبراء الأمم المتحدة، محمد الشرقاوي، أن التكنولوجيا العسكرية الأمريكية تتفوق بمئات الأميال عن الصينية بدليل أن الولايات المتحدة ما زالت تغطي ” بمظلتها التكنولوجية المتطورة الأمن القومي لأوروبا وتحميه”.
التفوق الرقمي والتكنولوجي
حققت الصين طفرة كبيرة خلال السنوات الأخيرة في مجالات تكنولوجية عدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمّية.
كما أن الصين تحتل صدارة التصنيف العالمي، عبر امتلاكها ما يقرب من 40% من براءات الاختراع الأساسية لتكنولوجيا شبكات اتصالات الجيل الخامس “5G” تليها الولايات المتحدة، بحسب تقرير صادر عن الهيئة الوطنية للملكية الفكرية الصينية عام 2022.
وفي عام 2019 أطلقت الصين خدمة الـ 5G، التي طورتها وأعدت بنيتها التحتية سبع شركات صينية أبرزها شركة هواوي للتكنولوجيا.
لكن تلك الخدمة والتي توفر سرعات فائقة لنقل البيانات شكّلت مصدر قلق كبير للولايات المتحدة، التي حثت حلفاءها الغربيين على عدم الاستعانة بشركة هواوي لتجهيز الشبكات الخاصة بها، بحجة أن بكين يمكن أن تستخدم هذه الشركات لمراقبة اتصالات الدولة وحركة البيانات.
الفضاء هو الحلم الصيني
لدى بكين برنامج فضائي طموح، فبعد أن قامت الولايات المتحدة بمنع الصين من المشاركة في المحطة الفضائية الدولية، احتفلت الصين آواخر العام الماضي بتشغيل محطة الفضاء الدائمة “تيانغونغ” والتي يعني اسمها “القصر السماوي”، وبذلك أصبحت الصين ثالث دولة في العالم تشيّد محطة فضائية دائمة إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا، وواحدة من أكبر ثلاث قوى فضائية في العالم.
وفي تقنيات التواصل الاجتماعي، أثبت تطبيق تيك توك الصيني -الذي يعتبر أحد أسرع التطبيقات انتشاراً في العالم- نجاحه بين العديد من التطبيقات الأمريكية مثل فيسبوك.
ويرى خبراء التكنولوجيا أن التطبيقات الصينية باتت تؤثر على المنصات الغربية وفي حال تواصل تقدمها فإن عالم الإنترنت سيبدو مختلفا تماما عما نعرفه اليوم.
يقول أستاذ تسوية الصراعات الدولية والعضو السابق في لجنة خبراء الأمم المتحدة، محمد الشرقاوي، إن الصين ما زالت تتلمس الطريق في مجال الأبحاث: ” وباء كورونا منح الصينيين فرصة لإظهار أنهم قادرون على أن يكونوا أطباء العالم كخطوة أولى لتجاوز الدور الأمريكي، لكنها محاولات قصيرة الأمد”.
النفوذ الدبلوماسي
تتبنى الصين نهج الدبلوماسية الناعمة، بمعنى أنها تلتزم الحياد في الخلافات الدولية، كما أنها لا تسعى للتدخل بالشأن الداخلي لدول العالم بحسب أقوال مسؤوليها.
ومؤخرا أعربت الصين عن رغبتها في القيام بدور وسيط سلام في الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي خطوة طال انتظارها، أعلن الرئيس الأوكراني، فولودمير زيلينسكي، مساء أمس، عن إجراء اتصال هاتفي بنظيره الصيني، شي جين بينغ، مشيرا إلى أن هذه الخطوة ستعطي دفعة معنوية قوية لتطور العلاقات بين البلدين.
وخلال الشهر الماضي، حققت الصين بحسب مراقبين دوليين اختراقاً دبلوماسياً باهراً في منطقة الشرق الأوسط، عندما استضافت المفاوضات بين السعودية وإيران، التي انتهت باستئناف علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016.
ويشير الشرقاوي بهذا الشأن، أن الصين حققت بعض المكاسب الدبلوماسية: ” من عثرات الحظ بالنسبة للرئيس الأمريكي بايدن، أن يتفق الخصوم القدامى طهران و الرياض، ويتم الصلح في بكين وهذا مثلث مسموم بالنسبة للديمقراطيين وقد يعني أن سياسة احتواء الصين لم تؤتِ أكلها للآن”.
بينما يقلل أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا إبراهيم فريحات من أهمية هذا الاختراق الدبلوماسي، مدعماً رأيه بأن بغداد وعُمان هما من نفذا المصالحة، إضافة إلى أن الصين أرادت مصلحتها الاقتصادية بالدرجة الأولى، بحسب فريحات.
هل يمكن إزاحة الولايات المتحدة عن عرش قيادة العالم؟
شهدت السنوات الأخيرة توترات شديدة بين واشنطن وبكين في مجالات عديدة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية.
ومؤخراً شكل ملف تايوان بيئة صعبة بين البلدين، أدت لاستعراض قوتهما العسكرية في بحر جنوب الصين، الأمر الذي أثار تساؤلات كثيرة حول مدى إمكانية تغير موازين القوى الحالية، حيث استطاعت الصين أن تصبح قطباً موازيا للولايات المتحدة مع احتمالية أن تتخطاها في السنوات القادمة، كما يقول كل من الصحفي المختص بالشأن الأمريكي والعلاقات الدولية إيهاب عباس، والباحث في الشؤون الآسيوية من بكين حسين اسماعيل.
ويقول إيهاب عباس لـ بي بي سي إن ثمة اشتراطات يجب أن تحققها الصين لتبقى في الصدارة:
- أن تعالج مشكلة الشيخوخة المستفحلة، فمعدلات الإنجاب انخفضت بشكل قياسي، ما يعني أن التقدم الاقتصادي، بات تحت تهديد كبير.
- لا بدّ أن يظل الحزب الشيوعي في سدة الحكم لأن ذلك سينعكس على العملية التنموية.
- أن تبقى البيئة الجغرافية المحيطة بالبلاد مستقرة، بمعنى أن لا تنشب نزاعات عسكرية سواء في شبه الجزيرة الكورية أو مضيق تايوان أو أي أجزاء من بحر الصين الجنوبي.
في حين يرى أستاذ تسوية الصراعات الدولية والعضو السابق في لجنة خبراء الأمم المتحدة محمد الشرقاوي، أن قيادة الصين للعالم لن ترى النور في المستقبل القريب على أقل تقدير.
ويتفق أستاذ النزاعات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا إبراهيم فريحات، مع الشرقاوي بهذا الشأن، ويشير فريحات إلى أن الصين “لا تمتلك رسالة” لترويجها مثل الولايات المتحدة التي تروج للديمقراطية وحقوق الإنسان.
ويضيف فريحات أنه أجرى قبل نحو أسبوعين محادثة مع مسؤول صيني -فضل عدم ذكر اسمه- قال له إنه “ليس لدى الصين أي رغبة أو إمكانية لقيادة العالم أو حتى لعب دور أمني، وبأن البلاد تسعى للتوسع الاقتصادي حول العالم فقط”.
وفي ظل كل هذه المعطيات، يصعب التكهن بشكل دقيق بحجم التغيرات التي قد تطرأ على العلاقات الأمريكية الصينية، من حيث الشراكة أو المواجهة، فبين الطموح الصيني بنفوذ أوسع حول العالم، والتوجس الأمريكي من ذلك الصعود، تظل العلاقات محكومة بالحذر والترقب.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.