- جيريمي بوين
- محرر شؤون الشرق الأوسط، القدس
مع تصاعد حدة التوترات بين إسرائيل والفلسطينيين مرة أخرى، تبدو الآمال في السلام وحل الدولتين بعيدة كل البعد عن الواقع، مثلما كانت دائما.
القدس مدينة يقدسها أتباع الأديان السماوية الثلاثة. وأكثر أوقات تتفجر فيها الأوضاع هنا هي المناسبات والاحتفالات الدينية، لا سيما في المدينة القديمة المسورة التي لا تبعد فيها المواقع المقدسة لدى المسيحيين واليهود والمسلمين كثيرا عن بعضها بعضا.
والدين له أهمية ونفوذ كبيران هنا يصعب المبالغة فيهما. والسبب هو أنه يعني ما هو أكثر بكثير من المعتقدات. فالدين جزء لا يتجزأ من القومية الفلسطينية والإسرائيلية. كما أن الدين والسياسة والهوية تكتسب قوة وزخما من بعضها بعضا. والغرماء هنا يحترمون قداسة المدينة ويعتبرونها عاصمتهم.
هذا الشهر، تزامن رمضان مع عيد الفصح اليهودي وعيد القيامة المسيحي. كما تزامن مع تصاعد مشاعر الغضب واليأس.
قبل عامين، أدت الإجراءات الأمنية الإسرائيلية شديدة الصرامة التي فرضتها إسرائيل على الفلسطينيين خلال شهر رمضان إلى تفجر حرب قصيرة ولكن فتاكة في قطاع غزة وحوله بين الإسرائيليين وحركة المقاومة الإسلامية “حماس”.
خلال الشهر الحالي، بدا وكأن التاريخ كان على وشك أن يعيد نفسه، عندما اقتحمت القوات الإسرائيلية المسجد الأقصى، الذي يعتبره المسلمون الموقع الذي شهد المعراج، أو ارتقاء النبي محمد إلى السماء. استخدمت قوات الشرطة تكتيكات شديدة العنف لإخراج الفلسطينيين الذين كانوا معتكفين داخل المصلى القبلي.
وأثارت مقاطع فيديو تظهر الشرطة الإسرائيلية المسلحة وهي تعتدي بالضرب على الفلسطينيين حالة من الغضب في الشرق الأوسط وما وراءه، بما في ذلك البلدان العربية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل. وسقط وابل من الصواريخ التي أطلقت من لبنان على إسرائيل، على الأرجح أطلقتها جماعات فلسطينية، وهو ما تسبب في أخطر لحظة تشهدها الحدود الإسرائيلية- اللبنانية المدججة بالسلاح منذ انتهاء الحرب التي نشبت بين إسرائيل وجماعة حزب الله في عام 2006.
وفي الأيام التي تلت الغارة على المسجد الأقصى، تفادت كافة الأطراف السقوط في هاوية مواجهة أخرى كانت على وشك الانفجار، لكن أسباب بلوغ تلك النقطة لا تزال قائمة.
فقد مر أكثر من 10 سنوات على آخر محاولة جادة للتوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين من أجل التفاوض على مستقبلهم، سواء معا أم بشكل منفصل. وأدت الفترات الطويلة من الهدوء الحذر بين الجانبين إلى إقناع الزعماء الإسرائيليين، ولا سيما رئيس الوزراء الأكثر بقاء في السلطة بنيامين نتنياهو، بأنه من الممكن التعايش مع الصراع والسيطرة عليه، بدلا من تسويته. ولكن عامين من التوتر والعنف المتصاعدين منذ آخر حروب غزة أثبتا أن ذلك محض وهم.
ولا يزال مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي وغيرهما من الجهات الدولية يأكدون على إيمانهم بأن الفرصة الوحيدة لتحقيق السلام هي “حل الدولتين”. وقبل جيل مضى، ربما كان يبدو ذلك وسيلة واقعية لإنهاء ما يزيد عن قرن من الصراع بين اليهود والعرب للسيطرة على الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. حل الدولتين كان ينطوي على فكرة أن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل من شأنه أن يوجد طريقة للتعايش السلمي بين الشعبين.
لكن حل “الدولتين” أصبح شعارا فارغا. ورغم أن مؤيديه يشعرون بالقلق، إلا أنهم تخلوا عن محاولة تحويله إلى واقع.
ذهبت من القدس إلى الخليل لأذكر نفسي ببعض أسباب ذلك.
ركوب سيارة والسير في الطريق، كما فعلت عديد المرات منذ التسعينيات، أوضح لي مرة أخرى حجم الهوة بين التطلعات الدولية بشأن مستقبل هذه الأرض والواقع الذي يعيشه الناس هنا.
كانت رحلتي بالسيارة مشروعا غير علمي خلال عاصفة هبت في غير أوانها على الضفة الغربية وجلبت في طريقها الأمطار الغزيرة. جيوب الضباب الكثيف على الطريق لم تحجب رؤية التقدم الذي أحرزه مؤخرا مشروع إسرائيل الضخم الذي يركز على هدف واحد هو توطين اليهود في الأراضي التي يريد الفلسطينيون إقامة دولتهم عليها. وكنت سأرى ببساطة نفس هذا النوع من الأدلة لو أنني اتجهت بالسيارة شمالا أو شرقا بدلا من الاتجاه جنوبا.
خلال الأعوام التي تلت رحلتي الأولى بين القدس والخليل، تغيرت معالم الرحلة وكذلك معالم الأرض على جانبي الطريق. في بداية تسعينيات القرن الماضي، كان طريقا ريفيا. وكانت هناك بضعة مستوطنات إسرائيلية عند سفوح التلال، لا سيما جنوب مدينة بيت لحم، وهي أول مدينة فلسطينية يمر بها الطريق بعد مغادرة القدس. لكن غالبية الأرض على جانبي الطريق كانت حقولا مفتوحة زرعتها وجنت ثمارها أجيال من المزارعين الفلسطينيين، الذين كان بعضهم يذهب إلى عمله ممتطيا حمارا يتهادى به على أطراف الطريق.
لا يزال هناك مزارعون يعملون في تلك الحقول، ولكنها تقلصت وتقطعت أوصالها بسبب التوسع الضخم للمستوطنات. وقد صودرت مساحات هائلة من الأراضي الفلسطينية لتوسيع الطريق وتقويمه، ولربطه بشبكة الطرق الفرعية المتنامية باستمرار، والتي تربط المستوطنات ببعضها بعضا وبمدينة القدس. وقد شهد طريق القدس-الخليل ازدحامات مرورية هذا الأسبوع، وكانت غالبية السيارات تحمل لوحات أرقام إسرائيلية، وهو ما يعكس الزيادة الكبيرة في عدد السكان بمنطقة المستوطنات.
وبينما واصلت الأمطار الغزيرة هطولها، كان هناك حوالي اثني عشر جنديا إسرائيليا يرتدون زي القتال ويتنقلون في عرباتهم العسكرية لتنفيذ عملية عسكرية أخرى في الضفة الغربية المحتلة منذ 56 عاما، والتي لا يوجد أي إشارة على انتهاء احتلالها. كانوا على مقربة من برج مراقبة تابع للجيش الإسرائيلي عند مدخل بيت عمر، وهي بلدة فلسطينية صغيرة يعتمد سكانها بالأساس على الزراعة لكسب قوت يومهم. وقد فقدت بيت عمر، مثلها مثل الكثير من البلدات والقرى الأخرى في الضفة الغربية، مساحات كبيرة من أراضيها بسبب التوسع في بناء المستوطنات وشق المزيد من الطرق. وأدى الاحتلال والرغبة في مقاومته إلى تكرار أعمال العنف عبر السنين.
غالبية دول العالم تعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة غير قانونية. كما أن منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش من بين الجماعات الحقوقية التي تقول إن الأنشطة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة تصل إلى حد الفصل العنصري.
وتنفي إسرائيل هذه التهمة، وتصر على أن القوانين الدولية التي تمنع بلدا ما من توطين شعبه على الأرض التي يحتلها لا تطبق على الأراضي (الفلسطينية المحتلة).
مليارات الدولارات التي استثمرتها إسرائيل في شق الطرق وبناء المنازل والإجراءات الأمنية اللازمة لحماية المستوطنين الإسرائيليين، خلقت واقعا جديدا يهدف إلى ضمان احتفاظ إسرائيل بأكبر مساحة ممكنة من الأراضي التي استولت عليها خلال حرب عام 1967.
بعض الحكومات الإسرائيلية عكفت على توسيع نطاق المستوطنات، بينما كانت في الوقت نفسه تتحدث عن حل الدولتين. أما إرشادات الحكومة الائتلافية الحالية فهي صريحة ومباشرة بشكل أكبر بكثير. فهي تعكس كون الحكومة، التي يتزعمها بنيامين نتنياهو مرة أخرى، هي أكثر حكومة يمينية قومية في تاريخ إسرائيل. تقول الحكومة إنها سوف ترعى إنشاء وتطوير مستوطنات على أراضٍ يكون “للشعب اليهودي فيها حق حصري وغير قابل للجدال”.
ويظل مؤيدو حل الدولتين يحذرون من أن تنامي المستوطنات الإسرائيلية يجعل منه اقتراحا يستحيل تطبيقه من الناحيتين العملية والسياسية. وجاء أحد أحدث التحذيرات من الأمم المتحدة في 20 فبراير/شباط من هذا العام. فقد أكد مجلس الأمن مجددا “التزامه الذي لا يتزعزع” بحل الدولتين، وقال إن “مواصلة الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية تشكل خطرا كبيرا على قابلية تنفيذ حل الدولتين استنادا إلى حدود 1967”.
بيد أن التوسع الاستيطاني ليس السبب الوحيد لكون إجراء حوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين أمرا مستحيلا.
فالولايات المتحدة، التي رعت محادثات بين الجانبين في السابق، منشغلة بقضايا أخرى، لا سيما التنافس مع الصين والحرب في أوكرانيا.
كما أن القيادة السياسية الفلسطينية منقسمة ما بين حماس في قطاع غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. والقادة الفلسطينيون غير قادرين في الوقت الحالي على إبرام أو تنفيذ أي نوع من الاتفاقات. بل إن السلطة الفلسطينية تستطيع بالكاد ممارسة صلاحياتها المحدودة.
وإسرائيل هي الأخرى غارقة في أزمتها السياسية الداخلية المتعلقة بمستقبل الديمقراطية.
يبدو السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعيد المنال كما كان من قبل. فالطرفان لا يثق أي منهما بالآخر، والتصاعد الخطر في أعمال العنف وضحايا تلك الأعمال هذا العام، هما بمثابة تحذير من مشكلات أسوأ تلوح في الأفق. الجميع هنا يدركون حجم المجازفة، ولكن لا أحد لديه خطة حقيقية لتفادي انفجار الأوضاع.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.