الذكاء الاصطناعي بين الضوابط الغائبة والتطور المتسارع
مع التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي، تتصاعد التحذيرات من احتمالات تأثيره على الانتخابات الأميركية. ففي موسم انتخابي حام، بدأت صور مزيفة للمرشحين بالظهور إلى العلن، بالإضافة إلى تصريحات مفبركة لبعض السياسيين، الأمر الذي زاد من مخاوف التضليل. وهذا ما تحدث عنه من المدير التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي» سام ألتمان، في جلسة استماع مفتوحة أمام الكونغرس الأميركي، قال فيها: «هذا من أكثر الأمور التي تقلقني، فهذه النماذج في التكنولوجيا تتطور من حيث التلاعب والإقناع وتوفير معلومات كاذبة بشكل تفاعلي. نحن على مشارف انتخابات العام المقبل، وهذه النماذج تتحسن بشكل مستمر».
يستعرض برنامج «تقرير واشنطن»، وهو ثمرة تعاون بين «الشرق الأوسط» و«الشرق»، طبيعة تضليل الذكاء الاصطناعي للناخب الأميركي، والمساعي لفرض ضوابط عليه، إضافة إلى سهولة نشر الأخبار المزيفة عبر هذه التكنولوجيا.
تضليل وتزوير
تشير هودان عمر، كبيرة المحللين في مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار، إلى أن المعلومات الخاطئة والمضلّلة الممكّنة من الذكاء الاصطناعي هي مشكلة فعلية تجب مواجهتها. وتطرح هودان عمر هذه المشكلة بشقين، فتقول: «من جهة أولى، سوف تعطي الشرعية لأمور غير صحيحة، أي إنها تدفع الأشخاص لتصديق أمور لم تحدث. لكن من جهة أخرى، يمكن أن تعطي صفة غير شرعية لأمور صحيحة وتدفع الناس إلى عدم تصديق أمور حدثت بالفعل»، وتعطي هودان عمر مثالاً مرتبطاً بالحملات الانتخابية، مشيرةً إلى أن الإعلام المولَّد من الذكاء الاصطناعي قد يغيّر من تصريحات المرشحين بطريقة مقنعة.
وتوافق رافيت توتان، المستشارة في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي مع مقاربة هودان عمر، محذرةً من الأضرار التي يمكن أن تُلحقها المعلومات الكاذبة في الموسم الانتخابي. وتحدثت توتان عن مثال نشر صور كاذبة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب خلال عملية اعتقال وهمية في شوارع نيويورك، فقالت: «لو كنت رأيت هذه الصور قبل خمس سنوات، لكنت صدقتها بالتأكيد. هناك العديد من الأشخاص الذين لا يدركون قدرة هذه التكنولوجيا وقوتها وعندما يرون هذه الصور، وأنا متأكدة أنه سيتم توليد صور مماثلة، فهي ستؤثر على حكمهم وهذا ما سيسمح بزعزعة مؤسساتنا السياسية من الداخل بغضّ النظر عمّا قد يقوم به العملاء الخارجيون». وشدّدت توتان على أهمية فرض ضوابط بسرعة للسيطرة على التداعيات السلبية لهذه التكنولوجيا، مضيفة: «لا يمكننا الجلوس على الهامش، والأمل بالأفضل مع التكنولوجيا ثم فرض ضوابط لاحقاً».
بالإضافة إلى التلاعب بصور السياسيين وتصريحاتهم، برزت مشكلة أخرى الأسبوع المنصرم في واشنطن. فقد أدّى تداول صورة مزيفة لتفجير في البنتاغون إلى نشر الهلع، وتدهور أسهم البورصة الأميركية. وتحدّث رايان تانيللي، مراسل الشؤون القانونية في موقع «رول كول»، عن المشكلات المرتبطة بالبرامج التقنية التي حسّنها الذكاء الاصطناعي، مثل «فوتوشوب». بالإضافة إلى خطورة سرعة تداول الأخبار الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي من دون التحقق من مصداقيتها. وأشار تارينيلي إلى تحذيرات مؤسس «شات جي بي تي» سامويل ألتمان، من هذه النزعة في جلسة الاستماع، فقال: «شاهدنا ألتمان يشير إلى هذه المسائل، حيث ذكر برنامج فوتوشوب. وكان هناك قلق حول أن الناس لن يمكنهم التمييز بين الحقيقة والكذب في ما يتعلّق ببرامج تقنية مثل فوتوشوب. لكنه بدا متفائلاً بقدرة الجمهور على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، إلا أن المشرعين يشككون بهذا، ويسعون لفرض ضوابط».
ضوابط وحلول
أتت الدعوة لفرض ضوابط حكومية على لسان ألتمان بنفسه، إذ التمس المساعدة من المشرعين في جلسة الاستماع التي عقدتها اللجنة القضائية الفرعية في مجلس الشيوخ. وأشار تارينيلي إلى أن اللافت في جلسة الاستماع كان سعي المشرعين لإيجاد بعض الحلول. ومن هذه الحلول، إنشاء وكالة حكومية مستقلة لتنظيم وضبط الذكاء الاصطناعي، كما يتداول المشرعون مشروع قانون يضع علامات بيانية واضحة على الإعلانات السياسية التي أنتجت بواسطة الذكاء الاصطناعي.
وتشير توتان إلى طرح قد يحلّ جزءاً من المشكلة، وهو الإشارة إلى المحتوى الاصطناعي بطريقة تساعد على التأكد من صحة النص أو الصورة. وتفسّر توتان الحل قائلة: «اعتدنا على رؤية إعلانات من سياسيين خلال فترة الانتخابات، وفي نهاية الإعلان يصرح المرشح: أنا أوافق على ذلك. وأعتقد أننا بحاجة إلى ما يشبه ذلك للنصوص والصور، ويجب أن تكون مدمجة في التكنولوجيا نفسها، أي في الكاميرات مثلاً. ماذا لو تضمنت البيانات الوصفية للصورة مثلاً إشارة تقول: هذه الصورة التقطتها بواسطة هاتفي؛ فأضيف توقيعي عليها نوعاً ما. إذا يصبح لدينا معلومات عن مصدر الصورة».
ورأت توتان أن الطريقة الأنسب لمواجهة تزييف المحتوى هي عبر وضع علامة على المحتوى الحقيقي، بدلاً من وضع إشارة على المحتوى المزيف، مشيرةً إلى أنه إذا ما تبين مصدر الصورة أو الخبر، يصبح من الأسهل تحديد صدقيته.
وفي حين ينظر المشرعون في حلول وطروحات لفرض ضوابط، منها طرح لزعيم الأغلبية الديمقراطية تشاك شومر، لا يزال قيد الإنشاء، يتخوف البعض من أن السرعة الفائقة لتطور هذه التكنولوجيا تتخطى قدرة المشرعين على التصرف. وهذا ما تحدث عنه تارينيلي، الذي يغطي أخبار الكونغرس بشكل دوري، فقال: «هناك إدراك بأن مجلس الشيوخ هو مؤسسة بطيئة، خصوصاً حيال مسائل التكنولوجيا. وهذا ما يضعه في موقف ضعيف مقارنةً بالتكنولوجيا المتفاعلة». وذكّر تارينيلي بإجماع الكونغرس على ضرورة إصلاح وسائل التواصل الاجتماعي، لكن من دون أن يُتخذ أي قرار في هذا الشأن حتى الساعة.
ومن بين الطروحات المعروضة، طرح لإيلون ماسك يقضي بتجميد برامج الذكاء الاصطناعي لفترة 6 أشهر لإفساح المجال أمام سَنّ ضوابط وفرضها. لكنّ هودان عمر رفضت هذا الطرح، معتبرة أنه غير عملي. فسألت: «ما الذي سنقوم به في تلك الأشهر الستة؟ صحيح أن السياسات تتحرك بوتيرة بطيئة، لكن ما هدف الأشهر الستة؟ لماذا هذا الإطار الزمني؟ لذا من وجهة نظر عملية، لا أرى أن ذلك سيقرّبنا من النتيجة التي نرغب برؤيتها، أي وضع ضوابط هادفة تعالج الأضرار الحقيقية».
ولعلّ أبرز المشكلات التي ولّدها التلاعب بالأخبار من خلال الذكاء الاصطناعي، هو أنه ولّد شكوكاً في الأخبار الحقيقية. وتتحدث توتان عن تجربتها الشخصية في هذا الإطار قائلة: «هذا بدأ بالحصول فعلاً، فبالنسبة إليّ كفرد وكمستهلك مطّلع يعلم مدى تطور هذه التقنيات، أصبحتُ أشكّك الآن بكل صورة أراها وبكل رسالة نصية أقرأها. وأعتقد أنه يجب أن نشكك، كوننا أشخاصاً مسؤولين، وهذا ما يغيّر اللعبة في ما يتعلّق بنظام الانتخابات».
خسارة وظائف
ترجّح شركة «أوبن إي آي» التي تملك «تشات جي بي تي» أن 80% من القوة العاملة الأميركية ستتأثر بنسبة 10% بتطور الذكاء الاصطناعي، فيما ستتأثر 19% من القوة العاملة الأميركية بنسبة 50%. وقد أعرب أعضاء الكونغرس عن قلقهم من تأثير التكنولوجيا على الوظائف. ويشير تارينيلي إلى أن هذا القلق بات واضحاً في جلسة الاستماع التي استضافت ألتمان، قائلاً: «هو قلق طبيعي في أي نوع من الثورة الصناعية وتأثيرها المحتمل على الوظائف».
وتحدث تارينيلي عن تصريحات ألتمان التي اعترف فيها بخسارة وظائف، لكنه تحدث من الجانب الآخر عن وظائف جديدة ستخلقها هذه التكنولوجيا، مضيفاً: «يؤكد المشرفون على قطاع التكنولوجيا على الجانب الإيجابي من خلال خلق فرص عمل جديدة، لكن مما لا شك فيه أن هذه القضية ستكون عاملاً رئيسياً في المستقبل، خصوصاً في تحديد السياسات التنظيمية».
جوانب إيجابية
وفي خضم النقاش والتساؤلات حول تأثير الذكاء الاصطناعي السلبي، تُذكر هودان عمر بأوجهه الإيجابية في الأبحاث والحياة اليومية، قائلة: «بالطبع، هناك عدة أوجه إيجابية للذكاء الاصطناعي، وأعتقد أننا كمستهلكين قد لا نعلم بوجود أمور مثيرة للاهتمام يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي فيها. مثلاً ونحن نمشي في الشارع، لا نفكر بأن وزارة النقل تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد الحفرات في الشارع وإصلاح البنى التحتية. أعتقد أن أحد أسباب وجود نقاش محتدم حول سلبيات الذكاء الاصطناعي هو وجود تطبيقات تستهدف المستهلكين مثل «تشات جي بي تي»، وهي أمور يمكن أن نراها ونتفاعل معها على عكس الأمور الإيجابية التي لا يمكننا أن نراها».
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.