- ديما عودة
- بي بي سي-لندن
في الثامن عشر من فبراير/ شباط عام 2017، توفيت نورما مكورفي التي عرفت أيضا بالاسم المستعار، جين رو، بعد سنوات قضتها في النضال من أجل منح النساء حق الإجهاض، ثم سنوات طويلة في النضال ضده.
ربما لم يخطر ببال مكورفي حين ذهبت ذات يوم إلى محامية لتوكلها في قضية ضد ولاية تكساس لتتمكن من إجهاض حملها، أنها ستكون محور أحد أبرز الأحكام التي صدرت عن المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية عبر تاريخها، في القضية الشهيرة التي عرفت باسم “رو ضد ويد”.
حياتها كانت مليئة بالتحولات والتناقضات، وحتى لحظاتها الأخيرة لم تتوقف مكورفي عن مفاجأة الشارع الأمريكي. فمن هي المرأة التي كانت السبب وراء تقنين الإجهاض في الولايات المتحدة؟ ولماذا يحيط بشخصيتها الكثير من الغموض؟
طفولة مضطربة ونشأة صعبة
ولدت نورما ليا نيلسون في 22 سبتمبر/ أيلول عام 1947 في سيمسبورت في ولاية لويزيانا الأمريكية، ثم انتقلت أسرتها للعيش في ولاية تكساس.
ترعرعت نورما في كنف أم عازبة مدمنة على الكحول، وقد قالت لاحقا إن والدتها كانت تضربها وتسيء معاملتها، وبطبيعة الحال فإن تلك الطفولة المضطربة قد أدت بنورما إلى الوقوع في الكثير من المشاكل، التي أسفرت في نهاية المطاف عن إرسالها إلى مؤسسة إصلاحية تحت رعاية الدولة.
وفي عمر السادسة عشرة تزوجت نورما ويلسون من وودي مكورفي، وحملت بعد زواجها بفترة قصيرة، لكن هذا الزواج لم يدم طويلا، إذ طلبت الطلاق وانفصلت عن زوجها، الذي كان يعنفها ويضربها، قبل أن تنجب طفلتها الأولى، ومن ثم تتخلى عن حضانتها وتترك الطفلة الصغيرة في رعاية والدتها.
وقبل أن تتم ماكورفي ربيعها العشرين، حملت مرة أخرى وأنجبت طفلة ثانية، ثم تخلت عن حضانتها مباشرة بعد ولادتها، ووضعتها في برنامج للتبني.
قضية “رو ضد وايد” الشهيرة
لم يمض وقت طويل قبل أن تحمل مكورفي للمرة الثالثة عام 1969، لكن هذه المرة لم تكن بحال من الأحوال كسابقاتها، فقد أرادت أن تجهض حملها، الذي كان ناتجا عن تعرضها للاغتصاب، حسب قولها.
غير أن مثل هذا الإجراء لم يكن قانونيا في ولاية تكساس حينها، ما لم يمثل الحمل خطرا على حياة الأم.
لكن مكورفي التي كانت تأمل في أن تتمكن من إجهاض حملها أخذت تبحث عن محام ليمثلها أمام القضاء، ونُصحت باللجوء إلى المحاميتين النسويتين ليندا كوفي وسارة ويدينغتون، اللتين كانتا تبحثان عن موكلة مثل نورما مكورفي لرفع قضية بهدف تغيير القوانين التي تقيد وتحظر الإجهاض.
أعطت المحاميتان اسما مستعارا لنورما مكورفي في القضية، ألا وهو جين رو، وكان هنري وايد المدعي العام لمقاطعة دالاس هو الذي دافع عن قانون مناهضة الإجهاض ممثلا لولاية تكساس.
غير أن الحكم الأول الذي صدر لم يأت لصالح مكورفي، ما اضطرها إلى إنجاب طفلتها الثالثة، التي تخلت عن حضانتها هي الأخرى ووضعتها في برنامج للتبني.
كيف غيرت قضية جين رو قانون الإجهاض في البلاد؟
استأنفت ويدينغتون وكوفي الحكم أمام المحكمة العليا، وفي عام 1973 قضت المحكمة العليا بأغلبية سبعة أصوات مقابل صوتين بأن حق المرأة في إنهاء حملها محمي بموجب دستور الولايات المتحدة.
وأعطى الحكم المرأة الأمريكية حقا مطلقا في الإجهاض في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، لكنه فرض قيودا في الثلث الثاني من الحمل، وحظرا في الثلث الثالث منه.
كما كفل الحكم حق المرأة في الإجهاض في الثلث الأخير من الحمل، بغض النظر عن أي حظر قانوني، إذا أقر الأطباء أن الإجراء ضروري لإنقاذ حياتها أو صحتها.
ورغم أن نورما مكورفي كشفت بعد وقت قصير من قرار المحكمة العليا بأنها جين رو، التي كانت السبب وراء ذلك الحكم التاريخي، إلا أنها ظلت بعيدة عن دائرة الضوء خلال العقد الذي تلا الحكم.
وفي أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت مكورفي العمل التطوعي في عيادة إجهاض، كما أصبحت تتحدث علنا عن حق الاختيار للمرأة في مسألة الإجهاض. وباتت معروفة ومشهورة على مستوى البلاد، لدرجة أنه قد انتج في عام 1989 فيلم يحمل عنوان “رو ضد ويد” أدت فيه الممثلة هولي هانتر شخصية نورما مكورفي.
وفي العام ذاته أخذت المحامية البارزة، غلوريا ألريد، الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، مكورفي تحت جناحها.
الانقلاب على معسكر الإجهاض والنضال ضده
باتت مكورفي أيقونة منذ ذلك الحكم التاريخي، غير أنها وبصورة مفاجئة أصبحت صديقة للقس فيليب بنهام الذي اشتهر وجماعته التي تحمل اسم (عملية أنقذوا أمريكا)، بالتظاهر أمام العيادات التي تجري عمليات الإجهاض، وملاحقة وإزعاج الأطباء والطواقم الطبية العاملة في تلك العيادات والمراكز. وبدا الأمر حينها شديد الغرابة. فكيف يمكن أن تربط صداقة بين مكورفي ورجل يحارب كل ما تمثله!
لكن مكورفي لم تدع مجالا للاستغراب حين فجرت قنبلة في عام 1987 بإعلانها أن شهادة الاغتصاب، التي قدمتها عام 1969 كانت مزورة، وتحولت إلى اللوبي المناهض للإجهاض و”المؤيد للحياة”.
ورغم أن المحامية سارة ويدنغتون، التي ترافعت في قضية رو ضد ويد، أكدت أن شهادة الاغتصاب لم تكن عاملا حاسما في الحكم الصادر عن المحكمة العليا، وأن قرار مكورفي بتغيير موقفها ليس له أي تأثير على الحكم، إلا أن مما لا شك فيه أن تحول صاحبة القضية إلى المعسكر المضاد، كان له أثر كبير في ترجيح الكفة لصالح الجانب “المؤيد للحياة”.
لم تقف مكورفي عند ذلك الحد، فقد أعلنت أنها أصبحت مسيحية كاثوليكية تابعة للتيار الذي يعرف عن نفسه بأنه يضم الذين “ولدوا من جديد” بفعل الإيمان، وجرت مراسم تعميدها أمام عدسات كاميرات التلفزيون، وبدأت بالدفاع عن “حق الحياة”، وناضلت ضد الإجهاض.
وفي العقود التالية، استعاد النشطاء المناهضون للإجهاض الكثير مما خسروه في قضية رو ضد ويد، واعتمدت أكثر من 30 ولاية قوانين تحد من حقوق الإجهاض.
وربما كان أعظم انتصار قضائي للوبي “المؤيد للحياة” هو حكم المحكمة العليا في قضية “تنظيم الأسرة ضد كيسي” عام 1992، الذي أقر بأنه يمكن للولايات تقييد عمليات الإجهاض حتى في الأشهر الثلاثة الأولى إذا لم تتوفر أسباب طبية تستدعي الإجهاض.
وفي عام 2003، أدخل الكونغرس أول قيود رئيسية على الإجهاض في الولايات المتحدة منذ 30 عاما، عندما أقر قانونا يحظر بشكل كامل الإجهاض، في مرحلة متأخرة تقدر بـ 24 أسبوعا من عمر الحمل.
وهكذا ظلت قضية الإجهاض تثير الجدل والانقسام في الشارع الأمريكي، وصولا إلى عام 2022 حين فقدت ملايين النساء في الولايات المتحدة الحق القانوني في الإجهاض، بعد أن ألغت المحكمة العليا الحكم التاريخي “رو ضد ويد” وحكم ” تنظيم الأسرة ضد كيسي”.
وما أن صدر الحكم الجديد الذي يبطل مفعول الأحكام السابقة، حتى بدأ أثره يظهر بوضوح، إذ أصبح من حق كل ولاية على حدة حظر عملية الإجهاض.
ومررت 13 ولاية بالفعل قوانين تقضي بحظر الإجهاض تلقائيا فور صدور حكم المحكمة العليا.
اعترافات على “فراش الموت”
لم تكن نورما مكورفي لترحل عن هذه الدنيا قبل تفجير قنبلة أخيرة، فقد ظهرت في فيلم وثائقي لتكشف “الحقيقة العارية بدون أي تزييف لمسيرتها وتحولها من مدافعة عن الإجهاض إلى مناهضة له”.
وكشفت مكورفي في ذلك الوثائقي ما أسمته “اعترافات فراش الموت”، إذ قالت إنها لم تكن يوما ضد حق المرأة في الاختيار في قضية الإجهاض، وإنها حين غيرت موقفها كان السبب أنها تلقت أموالا من جماعات تابعة للكنيسة الإنجيلية لقاء انضمامها للمعسكر المناهض للإجهاض.
وقالت: “كنت بالنسبة لهم صيدا ثمينا.. أعتقد أنها كانت مصلحة متبادلة.. فقد أخذت مالهم مقابل وقوفي أمام الكاميرا، وترداد ما لقنوني إياه”.
وتابعت: “كان الأمر برمته أداء تمثيليا، وقد أديته بإتقان كامل، فأنا ممثلة بارعة”.
ويظهر في الوثائقي القس روبرت شينك، أحد القساوسة الإنجيليين الذين عملوا مع مكورفي لمناهضة الإجهاض، مدليا باعترافاته بأن جماعته دفعت الأموال لها مقابل تمثيلها لمعسكرهم.
“كنت مدركا تماما لما نفعله كحركة.. وتساءلت في نفسي؛ هل تتلاعب بنا؟ وبالطبع لم أكن أجرؤ على طرح هذا السؤال علنا لأني كنت أعلم تماما أننا من جهتنا كنا نتلاعب بها ونستغلها”.
وبعد عرض الوثائقي قال القس في منشور اتسم بالكثير من النقد الذاتي، إنه تأثر لدرجة البكاء لدى اطلاعه على تلك التفاصيل المؤلمة في حياة نورما مكورفي، داعيا الجميع إلى مشاهدته.
إن عرض التناقضات والتقلبات في مسار حياة نورما مكورفي من خلال هذا الفيلم الوثائقي الذي تم تصويره على مدار العام الذي سبق وفاتها، هو ما يجعل منه تجربة مميزة، كما أن الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات من كلا الطرفين، المؤيد للإجهاض والمناهض له، ساعدوا على فهم، وربما تسويغ التناقضات في شخصية نورما مكورفي. فهؤلاء هم نفس الأشخاص الذين استخدموا مكورفي لخدمة أجنداتهم، وبعد ذلك أهملوها وتخلوا عنها عندما انحرفت عن السردية المخططة لها.
وفي المحصلة، ورغم شخصية نورما ماكورفي الخلافية وبغض النظر عن دوافعها، وعلى الرغم من التناقضات والتحولات في موقفها، إلا أن مما لا شك فيه أن إسهاماتها من أجل حق المرأة في الاختيار، كان لها تأثير كبير على حياة ملايين النساء في الولايات المتحدة، كما أن قضية الإجهاض كانت ولا زالت من أكثر القضايا إثارة للجدل والانقسام في الشارع الأمريكي.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.