تلقت امرأة في ولاية بيهار شمالي الهند العام الماضي تبليغا بأن المتهم باغتصاب ابنتها قد مات، وأن القضية المرفوعة ضده قد أغلقت بالتالي. لكنها شككت في صحة تلك المزاعم، وتمكنت من كشف الحقيقة، ما أدى إلى إعادة فتح القضية، وتحقيق العدالة لابنتها.
مراسل بي بي سي سوتيك بيسواس بحث في الحيثيات، ويخبرنا هذه القصة المذهلة عن الإصرار والمثابرة بحثا عن الحقيقة، وتحقيقا للعدالة.
في صباح أحد الأيام من فبراير/شباط العام الماضي، وصل رجلان إلى أحد مواقع حرق جثث الموتى على ضفاف نهر الغانج، أقدس أنهار الهند.
وبدا أن الرجلين يريدان القيام بطقوس جنازة هندوسية، وكانا يجران حزمة كبيرة من الحطب، لكن الغريب أنهما لم يكونا يحملان أي جثة.
وما أن وصلا إلى البقعة المخصصة لحرق الجثث، حتى أخذت الأمور منعطفا غريبا.
كوم الرجلان الحطب على شكل محرقة، ثم استلقى أحدهما عليها، وغطى نفسه بكفن أبيض، وأغلق عينيه، أما الرجل الآخر فكوم فوق صاحبه مزيدا من قطع الحطب، التي غطت كامل جسمه، ولم يعد يظهر سوى وجهه.
التقطت للرجل المستلقي تحت الحطب في الوضع المذكور صورتان. وليس من الواضح من الذي التقطهما، وما إذا كان هناك شخص ثالث صور المشهد.
الرجل الذي يفترض أنه “الميت” اسمه نيراج مودي، وهو مدرس في مدرسة حكومية، وعمره 39 عاما، والرجل الآخر هو والده، راجارام مودي، وهو مزارع نحيل في الستين من عمره.
بعد ذلك، ذهب راجارام مودي بصحبة محام إلى محكمة على بعد حوالي 100 كيلومتر، وقدم وثيقة موقعة تفيد بأن ابنه نيراج مودي قد توفي في 27 فبراير/شباط في قريتهم، وأقسم على صحة ما أدلى به من معلومات، مرفقا صورتين من طقوس حرق جثة ابنه، وإيصال شراء الحطب كدليل على صحة أقواله.
حدث ذلك بعد ستة أيام من توجيه الشرطة إلى نيراج مودي تهمة اغتصاب إحدى تلميذاته، والتي كانت في الثانية عشرة من عمرها في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018.
اغتصبت الفتاة بينما كانت بمفردها في حقل لقصب السكر، وقال لها مهاجمها إنه صور الواقعة، وهددها إن تكلمت بفضحها ونشر اللقطات على الإنترنت.
ألقي القبض على مودي بعد مدة قصيرة من تقديم والدة الفتاة شكوى ضده، لكنه خرج بكفالة بعد أن أمضى شهرين في السجن.
حدثت تطورات سريعة على القضية بعد “وفاة” نيراج مودي العام الماضي. وأصدرت السلطات المحلية شهادة وفاته بعد شهرين من إبلاغ والده المحكمة بالأمر. وفي مايو/ أيار من العام نفسه، أصدرت المحكمة قرارا بإغلاق القضية لأن “المتهم الوحيد” قد مات.
لكن الوحيدة التي شكت في أن المدرس زيف موته واختبأ في مكان ما، لكي يتجنب الملاحقة القضائية، كانت والدة الفتاة المغتصبة، وهي امرأة فقيرة تعيش في كوخ في قرية مودي نفسها.
وقالت لي الأم عندما قابلتها مؤخرا “في اللحظة التي وصلني فيها نبأ موت نيراج مودي، علمت أنها كذبة. كنت أعرف أنه حي”.
تحدث نسبة كبيرة من الوفيات في الهند في الريف، ومن بين كل 10 وفيات في البلاد هناك 7 وفيات في القرى التي يبلغ عددها نحو 700 ألف قرية، كما أن عدد الأشخاص الذين يموتون في منازلهم في القرى أكثر بكثير من عددهم في المدن.
ووفق القانون المعمول به، والذي يعود إلى 54 عاما، فإن تسجيل الولادة والوفاة أمر إلزامي، ولكن ذكر أسباب الوفاة ليس إلزاميا. وعندما يموت شخص في إحدى القرى في ولاية بيهار، يتعين على أحد أفراد أسرة المتوفى تقديم رقم بطاقة هويته مع توقيع خمسة من سكان القرية يشهدون بوفاته، وتسليمها إلى “البانشيات” المحلي أو مجلس القرية.
ويقوم أعضاء المجلس، ومن ضمنهم أمين السجلات المحلية، بفحص الأوراق، وإذا كان كل شيء على ما يرام، يصدرون شهادة وفاة في غضون أسبوع.
ويقول جاي كاران جوبتا، محامي الفتاة الضحية “قرانا ذات كثافة سكانية عالية والعلاقات فيها مترابطة. الجميع يعرفون الجميع، ولا يمكن أن تحصل وفاة من دون أن يلاحظها أحد أو يسمع بها أحد”.
قدم راجارام مودي التوقيعات وأرقام بطاقات الهوية الخاصة بخمسة قرويين، مع إفادة خطية تفيد بأن ابنه مات، وحصل على شهادة الوفاة. ولم يذكر في الوثيقة سبب الوفاة، أما إيصال الشراء من متجر الحطب فذكر فيه أن الوفاة نجمت عن “مرض” من دون تحديده.
وعلمت الأم في أحد أيام مايو/ أيار الماضي، عن طريق محام أن القضية المرفوعة ضد نيراج مودي، قد أُغلقت لأنه توفي، واستغربت ذلك.
وقالت لي متسائلة “لكن كيف لم يعلم أحد بوفاة المدرس؟ لماذا لم تقم الطقوس المعتادة بعد الوفاة؟ لماذا لم يكن هناك أي حديث عن موته؟”.
وتقول إنها ذهبت من بيت إلى بيت في القرية لتسأل الناس عما إذا كان نيراج مودي قد مات. لكن أحدا لم يسمع بالخبر. ثم توجهت إلى المحكمة وناشدتها التحقيق في الأمر، لكن القضاة طلبوا أدلة تثبت أن المدرس لا يزال على قيد الحياة.
وفي منتصف مايو/أيار وهو الشهر الذي أعلمت فيه بوفاة المدرس، قدمت الأم التماسا إلى مسؤول محلي كبير، وقالت فيه إن مجلس القرية أصدر شهادة وفاة بناء على وثائق مزورة، وطالبت بإجراء تحقيقات.
وبدأت الأمور تتحرك بسرعة. وأمر المسؤول بإجراء تحقيق، وأبلغ أعضاء مجلس القرية، الذين طلبوا الحصول على مزيد من الأدلة من راجارام مودي حول وفاة ابنه: صور “المتوفى بعد وفاته، وحرق الجثة، والمحرقة المشتعلة، والطقوس النهائية، وشهادة (جديدة) لخمسة شهود”.
والتقى أعضاء المجلس بسكان القرية التي تضم نحو 250 منزلا. وبدا أن لا أحد منهم سمع بوفاة نيراج مودي. كما أن أيا من أفراد عائلة مودي لم يحلق رأسه وفق التقليدي الهندوسي في فترة الحداد على الأقرباء.
ويقول روهيت كومار باسوان، ضابط الشرطة الذي حقق في الأمر “حتى أقارب نيراج مودي ليس لديهم معلومات عن وفاته أو مكان وجوده. وكانوا يقولون إنه لو كانت هناك حالة وفاة، فإن الطقوس النهائية ستقام في المنزل (العائد للمتوفى)”.
استجوب أعضاء مجلس القرية رجارام مودي مرة أخرى، ولم يتمكن من تقديم دليل جديد على وفاة ابنه. وقال دارمندرا كومار، سكرتير المجلس “عندما طرحنا عليه مزيدا من الأسئلة، لم يقدم أي إجابة مرضية”.
وخلصت التحقيقات إلى أن نيراج مودي زور وفاته، وأن الأب والابن قاما بتزوير وثائق لاستخراج شهادة الوفاة.
وكشفت الشرطة أن أستاذ المدرسة قد أخذ أرقام بطاقات الهوية لخمسة من أولياء أمور طلابه، وزور توقيعاتهم على ورقة من أجل استخراج شهادة وفاته. وذلك بعد أن كان قد أخبر أولياء الأمور سابقا بأنه بحاجة إلى أرقام هوياتهم من أجل المنح الدراسية التي يعدها للطلاب.
وألغى المسؤولون شهادة وفاة نراج مودي يوم 23 مايو/أيار، وألقت الشرطة القبض على والده واتهمته بالتزوير. ويقول باسوان “لم أحقق قط في قضية مثل هذه خلال مسيرتي المهنية”، مضيفا “كانت الخطة تبدو مثالية، لكنها لم تكن كذلك”.
وفتحت المحكمة القضية من جديد في شهر يوليو/ تموز، وأعلنت إنها “تعرضت للخداع والتضليل” لكي يتمكن المتهم من “الإفلات من العقاب”.
وطالبت الأم، التي لم تتقاعس أبدا في بذل الجهود لتعقب المدرس الذي اغتصب ابنتها، المحكمة باعتقاله.
وقدم نيراج مودي نفسه للمحكمة بعد تسعة أشهر من إعلان وفاته، ورغم أنه نفى خلال المحاكمة تهمة الاغتصاب، فقد خرج من القاعة محبطا، يصحبه شرطي، وقد قيد معصمه بحبل.
وأصدرت المحكمة في يناير/كانون الثاني الماضي حكمها بإدانة نيراج مودي باغتصاب الفتاة، وحكمت عليه بالسجن 14 عاما، وأمرت للضحية بتعويضات قدرها 300 ألف روبية (نحو 3628 دولارا أمريكيا).
كما يواجه راجارام مودي الموجود في السجن أيضا، تهما بارتكاب الغش وخيانة الأمانة، والتي يمكن أن تصل عقوبتها إلى السجن سبع سنوات. ويواجه كلا من الأب والابن الآن تهما تتعلق بتزوير شهادة الوفاة.
وتقول الأم “كنت أسافر إلى المحكمة طوال أكثر من ثلاث سنوات لأتأكد من أن الرجل الذي اعتدى على ابنتي سيعاقب. وثم، ذات يوم أخبرني محاميه أنه مات. كيف يمكن لرجل أن يختفي بهذه البساطة؟”.
وتضيف “أخبرني المحامي أن رفع قضية جديدة لإثبات أن الوفاة مزورة سيكلف الكثير من المال. وقال لي آخرون إن المتهم سيخرج من السجن وسينتقم”.
لكنها تتابع قائلة بإصرار “لم أهتم. قلت إنني سأرتب أمر المال. لست خائفة. قلت للقاضي والمسؤولين: اكشفوا الحقيقة”.
سافرنا بالسيارة لساعات على طرق مليئة بالحفر، ومررنا بقنوات صرف صحي مفتوحة، وأكواخ فقيرة، وشاهدنا حقول الخردل بلونها الأصفر، وكذلك أفران من الطوب الملطخ بالدخان، وأخيرا وصلنا إلى قرية الضحية، والواقعة في أعماق بيهار، إحدى أفقر الولايات في الهند.
كان هناك شارع ضيق مرصوف يتعرج عبر مجموعة من البيوت المبنية من الطوب والمغطاة بأطباق استقبال القنوات الفضائية. وكانت الأم تعيش مع ابنيها اللذين ما زالا في المدرسة وابنتها في غرفة صغيرة من الطوب، لا توجد فيها نوافذ وسقفها عبارة عن قطع من الصفيح والبلاط. كانت الابنة الكبرى قد تزوجت وانتقلت للإقامة مع زوجها.
كانت الغرفة الفقيرة المظلمة تحتوي على سرير صغير مصنوع من الحبال والخشب، ووعاء من الحديد لتخزين الحبوب، وموقد من الطين محفور في الأرض، وحبل علقت عليه ملابس رثة. لم يكن لدى الأسرة قطعة أرض لتعيش عليها.
كانت القرية مزودة بالمياه والكهرباء، لكن لا توجد فيها وظائف، لذلك هاجر والد الفتاة إلى ولاية جنوبية على بعد أكثر من 1700 كيلومتر، حيث يعمل حمالا ليرسل بعض المال إلى عائلته.
في عام 2019 ، أعلن رئيس الوزراء ناريندرا مودي أن 100 بالمئة من قرى الهند قد أعلنت أن الاضطرار إلى قضاء الحاجة في العراء قد انتهى فيها بعد برنامج ضخم لبناء المراحيض من قبل حكومته. ومع ذلك، لا تزال العديد من المنازل، بما في ذلك منزل هذه العائلة، تفتقر إلى مرحاض.
وهذا ما دعا الفتاة إلى الذهاب إلى حقل القصب لتقضي حاجتها. وهناك هاجمها نيراج مودي من الخلف وأغلق فمها بيده، واغتصبتها.
وقال القاضي لو كوش كومار عند نطقه بالحكم في القضية، إن نيراج مودي أمر الفتاة أيضا بأن تلتزم الصمت، لأنه سجل مقطع فيديو للواقعة، وهددها بأنه يمكن أن ينشر الفيديو على الإنترنت، وسيشاهده الجميع ويتداولونه.
بعد عشرة أيام من تعرضها للاعتداء، أخبرت الفتاة المذعورة والدتها بالأمر. وذهبت الأم إلى الشرطة. وعقب ذلك بأيام قليلة، قدمت الفتاة إفادتها، وقالت للشرطة إن “نيراج مودي كان يضربني في المدرسة في كثير من الأحيان”.
رجعت الفتاة إلى المدرسة بعد اعتقال نيراج مودي، لكنها توقفت عن متابعة الدراسة منذ أربع سنوات عندما أفرج عنه بموجب كفالة، وباعت العائلة كتب الفتاة المدرسية لبائع خردة.
تأثرت الفتاة بشدة بالحادثة، وهي اليوم شاحبة وعصبية، وتمضي معظم وقتها داخل الغرفة المظلمة. وتقول والدتها “انتهت حياتها كطالبة. وأنا أخاف جدا من السماح لها بالخروج. آمل أن نتمكن من تزويجها”.
لا تزال هناك العديد من الأسئلة من دون إجابات. كيف أصدر مجلس القرية شهادة الوفاة من دون تدقيق الأوراق بشكل صحيح؟ وتقول الأم “عندما سألتهم لاحقا، قالوا إنهم ارتكبوا خطأ”.
ويقول برابهات جها، الأستاذ في جامعة تورنتو الذي قام بإحدى أكبر الدراسات حول الوفيات المبكرة في العالم، إن حالة نيراج مودي “غير عادية ونادرة للغاية”. ويضيف “لم نواجه خلال عملنا حالة واحدة من هذا القبيل”، في إشارة إلى دراسته التي شملت مليون حالة وفاة في الهند.
وقال جها “إن إساءة الاستخدام نادرة على الأغلب، لكن علينا أن نكون أكثر حرصا على وضع المزيد من القيود أو الحواجز لتسجيل الوفيات، لأنها قد تزيد الأمور سوءا”.
والسبب، كما يوضح هو أن سجلات الوفيات والسجلات الطبية في الهند قد يفوتها احتساب أعداد أكبر من النساء مقارنة بالرجال، ومن الفقراء مقارنة بالأغنياء، وهذا يجعل نقل الملكية وجهودا أخرى أكثر صعوبة، و”قد يساهم ذلك في (وقوع الأشخاص) في فخ الفقر”.
وبالعودة إلى الأم التي كافحت من أجل حق ابنتها في الحصول على العدالة، يبدو أن ما جرى غير حياتها، وبعد مشاعر الغضب العارمة، وبعد والمثابرة الشديدة في تعقب الجاني، أصبحت الآن فريسة الأسى والقلق.
وهي تقول “لقد ضغطت على القرية والمسؤولين للوصول إلى الحقيقة. إنني سعيدة لأن الرجل الذي انتهك ابنتي وشوه حياتها أصبح في السجن، لكن حياة ابنتي توقفت. كيف سيكون مصيرها؟”.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.