“أخذوني وأبنائي الثلاثة من أسفل جسر إلى مسكن مؤقت، ويساعدونني الآن للحصول على بطاقة لجوء في مصر”، هكذا بدأت منال سرد قصتها لنا وهي تجلس عند مدخل بناية في أحد الأحياء مدينة السادس من أكتوبر غربي القاهرة حيث مقر إحدى مبادرات دعم اللاجئين السودانيين.
تقول منال التي بدى على وجهها إرهاق وتعب، وعلى صوتها وهن ويأس، إن سودانيين وفروا لها رقم اتصال بأصحاب المبادرة وعنوانا تقريبيا لمقرها، فركبت سيارة أجرة تركتها وأبناءها عند الجسر المجاور حتى قدم إليها من قدموا لها هذا العون بعدما تقطعت بها السبل لأيام في مناطق مختلفة بالعاصمة المصرية.
قدمت منال إلى مصر عبر المنافذ الحدودية المشتركة دون مؤنة أو مال كاف، قبل أيام قليلة من تفجر الصراع الأخير في السودان، تلتمس مأمنا لها ولأولادها، مستغلة اتفاقية حرية الحركة للنساء والأطفال دون السادسة عشرة وكبار السن المبرمة بين البلدين حيث لا حاجة لتأشيرة لهذه الشرائح.
توقعت سلفا أن يتصادم الخصوم في بلدها، وبعد أيام قليلة من وصولها مصر تحققت نبوءتها حيث تأججت المعارك بين الجنرالين عبدالفتاح البرهان قائد الجيش ومحمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع رغم هدن معلنة.
تقول منال: “قررت أنه لم يعد بإمكاني العيش في الخرطوم، لذا أعددت الأوراق لي ولأولادي وهربت من السودان. نحن بائسون، والوضع في السودان محبط، واضطررنا إلى المغادرة. نطلب اللجوء لأن الوضع غير آمن في السودان الآن.”
حملت منال في يدها بعض الأوراق تقول إنها مطلوبة عند تقديم طلب للحصول على وضع لاجئ وإن أعضاء بمبادرة دعم السودانيين يساعدونها في عملية تقديم الطلب للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين في مصر.
بطاقات بالألوان
في مقر المبادرة، وهو حيز محدود التجهيزات بالطابق الأرضي في خلفية بناية سكنية متواضعة، وجدنا عددا من السودانيين يحملون بطاقات من لونين، الأصفر والأزرق، مدون عليها بيانات أصحابها وصادرة من المفوضية.
البطاقات الصفراء يحملها من يمتلكون أوراقا ثبوتية والزرقاء لمن تمت الموافقة على منحهم وضع “لاجئ”، ويحصل هؤلاء على مساعدات مالية منتظمة من المفوضية التي توفر كذلك مساعدات غذائية ودعما نفسيا لآخرين، كل بحسب حالته.
علمنا أيضا أن هناك من يحملون بطاقات باللون الأبيض وهؤلاء لا يمتلكون أي أوراق ثبوتية.
يبدو أن معاناة الساعين للجوء، ربما لا تنتهي بالحصول على بطاقة “لاجئ” لاسيما من لا يملكون أوراقا ثبوتية سوى بطاقة اللجوء، كما في حالة حياة التي التقينا بها في مقر المبادرة.
قدمت حياة، وهي أربعينية تعول ثلاثة أبناء أحدهم من ذوى الاحتياجات الخاصة، إلى مصر فرارا من صراع سابق بالسودان في عام 2019 وحصلت على بطاقة لاجئ في عام 2021، وليس معها جواز سفر أو أي أوراق ثبوتية سوى هذه البطاقة الورقية التي لا تستطيع التحرك بدونها.
تقول حياة إن عدم امتلاكها وثيقة سفر وحملها بطاقة لاجئ يسبب لها مشاكل أمنية كثيرة وفي بعض الأحيان يعرضها لاستغلال من أرباب العمل.
تضيف حياة : “الدعم من المفوضية لا يكفيني لأنه محدود ولابد لي من دفع الإيجار والطعام والملابس والمدارس والرعاية الصحية، لذلك كان علي أن أذهب وأجد وظيفة ولكني ما زلت أعاني. حتى في عملي كخادمة، لا يدفع الناس لي بالكامل لأنني لاجئة وليس لدي أوراق ثبوتية “.
سنوات من الانتظار
تقدم مبادرة “المعرفة للتدريب والتطوير” وهي إحدى مبادرات دعم اللاجئين في مصر مساعدات عدة لطالبي اللجوء، منها التعريف بمتطلبات عملية الحصول على صفة لاجئ والمساعدة في ملء نموذج طلب اللجوء، كما توفر مساكن مؤقتة ومواد تموينية بسيطة للأكثر احتياجا من السودانيين في محيطها.
يقول أحمد أدم رئيس المبادرة التي زرنا مقرها إن ما لديهم من الموارد قليل للغاية ويأتي كله من متبرعين سودانيين في مصر.
ويضيف “الشباب الموجودون في محيط المكان هم من يساهمون في توفير الدعم بالأساس. بمجرد تفجر المعارك الأخيرة في السودان، قام الجميع هنا بتوفير بعض مما لديهم مثل المواد التموينية كالسكر والأرز والزيت وغيرها. ما يحدث هو جهد ذاتي خالص.”
وأبدى أحمد، وهو حاصل على بطاقة صفراء (وتعني أنه ملتمس لجوء يحمل أوراقا ثبوتية) منذ عدة سنوات، تحفظا على تأخر مفوضية اللاجئين في منح حق اللجوء للساعين إليه قائلا إن الأمر قد يأخذ سنوات عدة قبل أن تحسم المفوضية موقف طالب اللجوء.
وأضاف “في بعض الأحيان يتم رفض الطلب بعد عامين أو ثلاثة من تقديمه للمفوضية، ويكون ملتمس اللجوء عاني كثيرا خلالها من ظروف قاسية في المعيشة والعمل والسكن.”
آلاف على أبواب المفوضية
في زيارتنا لمقر مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في مصر، شاهدنا آلافا من السودانيين يتكدسون أمام أبواب ونوافذ المقر.
داخل المقر مررنا بممر مطل على الشارع الرئيسي جلس به نحو أربعة من موظفي المفوضية على مقاعد مرتفعة نسبيا، يتحدثون عبر نوافذ زجاجية ضيقة وميكروفونات مع ملتمسي اللجوء المتكدسين بالخارج.
في زاوية أخرى بالمقر، وبعد مرورنا عبر مزيد من البوابات الإلكترونية، رأينا عشرات آخرين من أصحاب البشرة السمراء وغيرهم، يجلسون في فناء مكشوف بينما يتم النداء على واحد تلو الآخر للمثول أمام موظفين أخرين، فيما بدا أنه تدقيق في الطلبات وأخذ بصمات العين.
داخل الفناء وفي مساحة منفصلة يجتمع الأطفال لحضور فقرات تعليمية وترفيهية بانتظار أن ينهي ذويهم إجراءات الحصول على طلب اللجوء.
قدرت المفوضية عبور 88 ألف شخص الحدود السودانية صوب مصر بنهاية الشهر الأول من المعارك في السودان.
وأضافت كريستين بشاي، المتحدثة باسم مفوضية اللاجئين في مصر أن نحو 85 ألفا من هؤلاء هم من السودانيين وأن أكثر من ثلاثة آلاف منهم تواصلوا مع المفوضية خلال الأيام الماضية.
تقول بشاي، في تصريح لبي بي بي سي إن استخراج طلب اللجوء قد يأخذ وقتا لأن المتقدمين بحاجة لتقديم مصوغات الحصول على هذا الطلب بتفاصيل كاملة وتوفير الوثائق المطلوبة ما يأخذ بعض الوقت.
وأشارت بشاي إلى أن المفوضية تعاني أزمة في التمويل حتى قبل الأزمة السودانية مضيفة أنهم طلبوا منذ بداية العام الجاري 130 مليون دولار من الداعمين الدوليين لكنهم حصلوا على 10 في المئة فقط.
وتضيف أن نقص التمويل يمثل عائقا كبيرا أمام توفير المفوضية المزيد من الدعم للاجئين وملتمسي اللجوء، فمع تزايد الأعداد القادمة من السودان لا تتمكن المفوضية من توفير عدد كاف من الموظفين لتقديم الخدمة لهم.
مخاوف مصرية
تستضيف مصر أكثر من 290 ألف لاجئ مسجل رسميا بحسب إحصاء للمفوضية السامية للاجئين في فبراير شباط الماضي.
وقدرت السلطات المصرية عدد الأجانب الذين يقيمون في مصر بنحو دائم قبل الأزمة الأخيرة في السودان بنحو تسعة ملايين، أغلبهم من سوريا وليبيا واليمن والعراق والسودان دول أفريقية مختلفة.
وحذرت مصر مؤخرا من استمرار تدفق اللاجئين حال استمرار الصراع الحالي في السودان لما قد يمثل من ضغط على البلاد في ظل استمرار أزمتها الاقتصادية الحالية.
و يقول د. أيمن زهري عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر وخبير دراسات السكان والهجرة إن تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين على الدول يفرض عليها عبئا لوجستيا واقتصاديا وقد يكون له أبعاد سياسية أيضا.
ويضيف أن مصر تجد نفسها مرحبة بكل الفارين من مناطق الصراع في السودان بأي أعداد “لأن السودان هو الملعب الخلفي لمصر وأي خلل يحدث في السودان يؤثر على مصر، وهناك علاقات واتفاقات وطيدة بين الشعبين تؤدي الى ضرورة قبول مصر لهذه الإعداد.”
أردف زهري أن مصر واقعة تحت ضغوط اقتصادية كبيرة، مشيرا إلى أن الأعداد الكبيرة من اللاجئين تمثل ضغطا عليها “حتى لو تلقت الدولة معونات من جهات داعمة أو مفوضية اللاجئين، ويتضح ذلك أكثر في مجال المنافسة على فرص العمل والكثافة السكانية في مناطق بعينها.”
وكشف عن تحد إضافي يتمثل في الأصوات المناهضة للأجانب والتي ترى أنهم يأخذون من نصيب “أبناء البلد”. وترتفع نبرة هذه الأصوات على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تعلن تخوفها من استيطان الأجانب في مصر وبدأ ذلك مع اللاجئين السوريين ويستمر الآن مع السودانيين، بحسب زهري.
لكن زهري أكد أن من يتبنون هذه الرؤية ممن وصفهم بـ “أنصار تيار اليمين المتطرف” المناهض للأجانب عددهم قليل للغاية ويواجهون بردود حازمة وحاسمة من الدولة المصرية .
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.