في ضوء التطورات الجيوسياسية المتسارعة والحرب في أوكرانيا، ومع ما فرضته من تبعات اقتصادية واسعة المدى، انعكست بشكل مباشر على معدلات التضخم، اتبعت البنوك المركزية سياسة تشددية “رفع أسعار الفائدة” لكبح جماح التضخم؛ الأمر الذي رفع فاتورة الاقتراض، وبما أضاف ضغوطاً جديدة على كاهل الشركات العاملة بالقطاع، وسط مخاوف من اضطرارها إلى عمليات بيع قسري.
- تشكل العقارات التجارية 9 بالمئة من محفظة قروض البنوك الأوروبية، في المتوسط (وفقاً لبنك غولدمان ساكس)، و15 بالمئة من القروض المتعثرة.
- هذا المعدل أقل بشكل ملحوظ من البنوك الأميركية، التي تمتلك 25 بالمئة من محفظة قروضها في هذا القطاع، وترتفع إلى 65 بالمئة بالنسبة للمقرضين الأصغر في الولايات المتحدة الذين كانوا محور الضغوط الأخيرة.
تقرير لصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، أشار إلى أنه “لطالما كانت الرافعة المالية سمة مركزية للعقارات التجارية، لكن إخفاقات البنوك الأخيرة في الولايات المتحدة، وعملية إنقاذ كريدي سويس في سويسرا والاستحواذ عليه من قبل منافسه UBS، زاد ذلك من المخاوف من أن يصبح الائتمان أقل توفراً وأكثر تكلفة.. وانخفضت أسعار العقارات بالفعل بشكل حاد في الأشهر الأخيرة”.
ورصد التقرير في هذا السياق، عدداً من الشواهد على أزمة العقارات التجارية والمكتبية، مع تعثر عدد من الشركات الكبرى، على النحو التالي:
- الملاك الكوريون لبرج Trianon في ألماينا، والمكون من 45 طابقاً، قاموا بتعيين مستشارين لبدء إعادة هيكلة 375 مليون يورو من الديون المضمونة على المبنى.
- عرضت Cheung Kei الصينية، مبنيين في منطقة Canary Wharf التجارية بلندن للبيع؛ لتقليل عبء ديونها (بحسب بلومبيرغ).
- تخلفت Blackstone، وهي أكبر مستثمر عقاري تجاري في العالم، عن سداد قرض مضمون مقابل مكتب ومحفظة تجزئة فنلندية الشهر الماضي.
بروكفيلد
ومن بين النماذج البارز، مجموعة “بروكفيلد” لإدارة الأصول، وهي من أكبر الشركات المالكة للعقارات في العالم، والتي تخلفت عن سداد رهن عقاري بقيمة 161.4 مليون دولار لعشرات المباني المكتبية، معظمها حول واشنطن العاصمة، حيث أثرت الوظائف الشاغرة على قيم العقارات.
كانت المجموعة قد تخلفت عن سداد مدفوعات مستحقة كذلك في لوس أنغلوس. وفي مارس الماضي، خفضت وكالة موديز خقضت تصنيف قروض (بضمان مبان سكنية ألمانية) تابعة للشركة نفسها.
من بين عشرات المباني في محفظة بروكفيلد، بلغ متوسط معدلات الإشغال 52 بالمئة فقط في العام 2022، انخفاضاً من 79 بالمئة في العام 2018، وفقاً لتقرير صادر عن الشركة.
كما قفزت المدفوعات الشهرية على الديون ذات السعر العائم للرهن العقاري إلى حوالي 880 ألف دولار في أبريل من ما يزيد قليلاً عن 300 ألف دولار في العام السابق، بعد أن رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة.
الأسباب الرئيسية
طبقاً لـ Green Street وهي شركة أبحاث واستشارات مستقلة تركز على صناعة العقارات التجارية في أميركا الشمالية وأوروبا، فإن الأسباب الرئيسية لتخلف بعض أصحاب العقارات عن سداد الديون، تتلخص في:
- ارتفاع تكاليف الاقتراض.
- تضاؤل احتمالات ملء أبراج المكاتب؛ نظراً لارتفاع العمل عن بُعد والعمل الهجين.
- أثرت هذه الاتجاهات على القيم، حيث انخفضت أسعار العقارات المكتبية بنحو 25 بالمئة في العام الماضي.
رجل الأعمال، الخبير في القطاع العقاري، آلان كوري، يقول في تصريحات لـ “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن قطاع العقارات المكتبية يواجه ضغوطاً تتعلق بانخفاض الطلب، بسبب الترتيبات الحديثة للعمل من المنزل، فضلاً عن تكاليف الإقراض التجاري الأكثر تشدداً مع ارتفاع أسعار الفائدة.
ويضيف: “تواجه عديد من استثمارات القطاع شروطاً قابلة للتعديل من 5 إلى 7 سنوات، وستكون عمليات إعادة التمويل في العامين المقبلين 2023 و 2024 متاحة بشكل أقل وبمعدلات أعلى مع معايير إقراض أكثر صرامة، الأمر الذي سيخلق عاصفة من الأخبار السيئة لمستثمري هذا القطاع”.
ويلفت إلى أن “المقرضين التجاريين الصغار قد لا يقرضون هذا القطاع على الإطلاق خلال السنوات القليلة المقبلة، مما يجبر المستثمرين على جلب الاستثمار من أموالهم الخاصة أو للذهاب إلى مقرضي الأموال الصعبة الأكثر تكلفة”.
أسعار الفائدة وكلفة الاقتراض
الخبير العقاري، عبدالمجيد جادو، يقول في تصريحات لـ “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن ثمة عدداً من العوامل المتداخلة التي تؤثر على القطاع ككل والشركات العاملة فيه، من بينها أسعار الفائدة وخدمة الدين؛ ذلك أنه مع قرارات رفع أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية (لكبح جماح التضخم) واجهت تلك الشركات كلفة مرتفعة لديونها، وبالتالي ارتفعت قيمة المدخلات الأساسية.
على الجانب الآخر، فمع ارتفاع قيمة المدخلات أو كلفة البناء والتشغيل، فإن ثمة حالة من الركود وتراجع الطلب، في ضوء عديد من الإشكاليات بدءاً من أزمة جائحة كورونا وما فرضته من “العمل عن بعد” بالنسبة لكثير من الشركات، ووصولاً إلى المرحلة الحالية بعد الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية.
بحسب جادو، فإن “مدخلات العمل ارتفعت كلفتها على كاهل الشركات في القطاع العقاري، الأمر الذي يجعلها تتحمل عبء الدين بشكل كبير”. وهو ما يبرر سعي بعض الشركات العالمية لإعادة هيكلة ديونها في ظل هذه الأزمة المحتدمة عليها.
ويشير الخبير العقاري هنا إلى أنه في ضوء ارتفاع الفائدة فإن بعض المباني ربما يكون تقييمها أعلى من قيمتها الحقيقية بعد جدولة الديون.
ويُذكّر في الوقت نفسه ببواعث الأزمة المالية العالمية في العام 2008، وكيف أن القطاع العقاري كان سبباً مباشراً فيها في ظل الإجراءات التي كانت تتبعها البنوك آنذاك، لكنه في الوقت نفسه يستبعد إمكانية تكرار الأزمة.
يقول جادو: “أعتقد بأنه علينا ألا نخشى من تكرار الأزمة، إنما المخاوف تتركز على أن يتحوّل الركود الحالي بالقطاع إلى حالة من الكساد التام”، مشدداً على أن الركود يُمكن التعامل معه بسياسات مختلفة سواء مرتبطة بدور المصارف في تقديم تسهيلات وكذلك السياسات الترويجية المختلفة ضمن محاولة التنشيط، لكنّ الأخطر هو الكساد، وجميعها عوامل مرتبطة بالأوضاع الاقتصادية.
- نقلت فاينانشال تايمز عن عدد من المحللين تأكيداتهم على أن تكرار الأزمة المالية ، حيث قوضت القروض المتعثرة ضد العقارات التجارية رأس مال البنوك “أمر غير مرجح”.
- يتوقع معظم المحللين عوضاً عن ذلك “فترة طويلة من التكيف المؤلم بدلاً من صدمة قصيرة وحادة”.
- من بين العوامل التي استدلوا بها على ذلك، نمو مصادر التمويل البديلة (مديرو الأصول وصناديق الثروة السيادية وشركات الأسهم الخاصة).
- من العوامل أيضاً الإجراءات التي اتخذتها البنوك للتحوط بعد أن تعلمت من دروس 2008، ذلك أن القروض كانت تصل إلى ما بين 80 و100 بالمئة من قيمة العقار، بينما حالياً نادراً ما تتجاوز الـ 60 بالمئة.
ودفعت الأزمة المصرفية الأخيرة بالولايات المتحدة وأوروبا إلى مزيدٍ من المخاوف بشأن “انفجار أزمة العقارات التجارية، وذلك بالنظر إلى أن “عديداً من البنوك الصغيرة والمتوسطة لديها حيازة ملحوظة من العقارات التجارية” طبقاً جاريد بيرنشاتين، الخبير الاقتصادي في البيت الأبيض، والذي ذكر في إفادته أمام مجلس الشيوخ، أن معدلات الإشغال في العقارات التجارية كانت أقل بكثير من مستويات ما قبل وباءكورونا، كما أن حالات التأخر عن السداد ارتفعت أخيراً.
القطاع العقاري
ويواجه القطاع العقاري ككل “نقاط ضعف” أساسية، سبق وأن حذر منها البنك المركزي الأوروبي في تقرير لها فبراير الماضي، جاء فيه أن “قطاع العقارات التجارية عرضة لتأثير الوباء، بينما تستمر مخاطر تصحيح الأسعار على المدى المتوسط في النمو في قطاع العقارات السكنية”.
كما حذر المحللون في Citi العملاء أواخر الشهر الماضي من أن قيم العقارات الأوروبية لم تأخذ في الحسبان ارتفاع أسعار الفائدة وقد تنخفض بنسبة تصل إلى 40 في المائة بحلول نهاية عام 2024.
وفي هذا السياق، يلفت الخبير العقاري، المستشار أسامة سعد الدين، وهو المدير التنفيذي لغرفة التطوير العقاري باتحاد الصناعات بالقاهرة، إلى عددٍ من الصعوبات التي يُواجهها القطاع العقاري عموماً، سواء بالنسبة للشركات أو المستثمرين، ومن بينها:
- ارتفاع سعر الفائدة حول العالم يؤثر على القطاعات كافة، بما في ذلك القطاع العقاري بفئاته وأنشطته المختلفة.
- القطاع العقاري يواجه تحديات خاصة فيما يرتبط باتجاهات المستثمرين، ممن يفاضلون بين أسعار الفائدة المرتفعة وشراء العقارات.
- بالنسبة للعقارات المكتبية والتجارية، فإن الشركات أو الأفراد المقبلين عليها قد يلجأون لتخفيض الفئات التي يستهدفونها تحت وطأة الوضع الاقتصادي.
ويتخوف العاملون بالقطاع من عمليات “بيع قسري” في ظل ارتفاع التكلفة على الشركات وعبء الديون، الأمر الذي من شأنه تخفيض قيمة الأصول العقارية، طبقاً لتقرير الصحيفة البريطانية.
وفيما يعتقد سعد الدين بأن بعض العوامل التي أدت لأزمة الرهن العقاري في 2008 تطل برأسها في المرحلة الحالية، إلا أنه لا يتوقع تكرار الأزمة؛ في ضوء إجراءات التحوط التي يتم اتخاذها، وبشكل خاص من قبل المستثمرين أنفسهم ممن تعلموا من دروس الأزمة السابقة.
ويتابع: “أزمة 2008 كان لها أسبابها والتسهيلات التي قادت إلى الفقاعة العقارية (من بينها عرض البنوك قروض بنسبة 100 بالمئة من قيمة المبنى)”. ويعتقد بأن هذا الانفتاح مستمر بشكل أو بآخر في الولايات المتحدة، لكن ثمة تحوط من قبل المستثمرين في القطاع خشية التعرض للأزمة، ولا سيما بعد أزمة البنوك الأميركية والمخاوف المرتبطة بحدوث أزمة ائتمانية.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.