تتمسك الحكومة الفرنسية بمد سن التقاعد ليكون 64 سنة بدلاً من 62، لمواجهة مشكلة تدهور الوضع المالي لصناديق المعاشات، وأيضاً معالجة أزمة الشيخوخة السكانية.
ويرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه من الضروري رفع سن التقاعد من أجل توفير التمويل اللازم لصندوق التقاعد.
وتعتبر الحكومة الفرنسية أن سن التقاعد المنخفض يشكل عبئاً على الموارد المالية العامة للدولة، وهو كذلك سن أقل نسبياً مقارنة بكثير من الدول الصناعية الأخرى.
ويُقدر العجز في نظام المعاشات بحوالي 10 مليارات يورو، أو نحو 10.73 دولارات أميركي بداية من العام الماضي 2022 وحتى العام 2032.
تظاهرات اليوم وإن كانت قد خرجت بصفة رئيسية تحت عنوان الرفض التام لإصلاح نظام التقاعد، والتي تمثل سادس تحرك منذ شهر يناير الماضي في ذلك السياق، إلا أنها تكتسب زخماً في ظل الأوضاع المعيشية المتفاقمة بالبلاد مع ارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار، ضمن التبعات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا والتي تعاني منها البلدان الأوروبية بنسب متفاوتة.
مخاوف من العمل لفترة أطول دون زيادة الأجور
يقول الباحث والأكاديمي الفرنسي، بيير لوي ريمو، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن ثمة أبعادا اقتصادية واضحة لتظاهرات اليوم، ترتبط بالأساس بالمخاوف الكبيرة من العمل مدة أطول دون زيادة في الأجور؛ على اعتبار أن قانون تمديد العمل لمدة أطول ربما يرفع من مستوى المعاشات لكن ليس مستوى الأجور أو مستوى ارتفاع تكلفة المعيشة.
ويوضح الباحث الفرنسي أنه فيما يتعلق بالظروف المعيشية، فإن المتظاهرين بوجه عام يرون أن ظروف العمل الصعبة لمن يؤدي مهنة متعبة تتضمن حملاً ثقيلاً كالوقوف طويلاً والدوام الليلي، كلها ظروف لم تحظ بالاهتمام الكافي خصوصاً لمن بدأوا العمل في سن مبكرة، مؤكداً أن هؤلاء يرون أن ثمة إجحافاً في فرض الدولة عليهم نفس عدد سنوات عمل شخص بدأ العمل في وقت متأخر ويعمل في ظروف مريحة أكثر.
ويقول الخبير الاقتصادي الفرنسي، جان مسيحة، في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن قانون إصلاح المعاشات الذي تقدمه الحكومة يواجه معارضة شديدة ليس فقط من الأحزاب السياسية المعارضة للحكومة، بل أيضاً من أغلبية الفرنسيين.
ويضيف: استطلاعات الرأي تشير إلى أن أكثر من 70 بالمئة من الفرنسيين يرفضون هذه الإصلاحات التي تطال المعاشات، والتي بموجبها يصبح سن المعاش 64 سنة وليس 62 سنة كما كان من قبل.
وعلى الجانب الآخر، يشير إلى أن تلك التظاهرات تأتي أيضاً بالتزامن مع الأوضاع المعيشية والاقتصادية المتفاقمة بالبلاد، مؤكداً أن ارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار وتكلفة المعيشة وعدم استطاعة الفرنسيين متوسطي الدخل مقاومة هذا الوضع، هي أمور خلقت معارضة شديدة ومطالبات للحكومة من أجل حماية الاقتصاد الفرنسي، ولا سيما فيما يتعلق بأسعار السلع الأساسية مثل الخبز واللبن واللحوم.
أظهرت بيانات نشرها أخيراً المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي تأثر باريس بشكل كبير بتداعيات الحرب في أوكرانيا. وأفادت بأن:
- معدل التضخم السنوي في فرنسا بلغ 5.2 بالمئة للعام 2022، بعد 1.6 بالمئة في العام 2021.
- ارتفاع أسعار الطاقة وحدها بنسبة 23.1 بالمئة سنوياً، علاوة على 6.8 بالمئة ارتفاعاً بأسعار الأغذية و3 بالمئة بالنسبة للسلع والخدمات المصنعة.
- أسعار الطاقة في البلاد وصلت إلى مستوى قياسي في العام 2022، بعد أن تم تداول الغاز الطبيعي عند 340 يورو لكل ميغاواط في الساعة في 26 أغسطس من العام الماضي.
وبينما تعطي تلك الأوضاع زخماً للفعاليات الاحتجاجية المرتبطة بنظام التقاعد، فإنه استناداً إلى هذه الأرقام والوضع الاقتصادي، يحذر مسيحة من خطورة الوضع المعيشي في فرنسا، قائلاً: “إن هناك بركاناً اجتماعياً في البلاد يمكن أن ينفجر في أي وقت وفي كل المدن الفرنسية”. ويلفت إلى أن هناك خوفاً من جانب الحكومة الفرنسية في أن يتسبب هذا البركان في اضطرابات سياسية ربما تؤدي إلى حل البرلمان الفرنسي.
تحديات حياتية واقتصادية.. ومخاوف من خسائر بالمليارات
وتؤكد الحكومة الفرنسية أن إصلاح نظام التقاعد سيتيح أمامها إمكانية ادخار ما يزيد على 17 مليار يورو أي نحو 18 مليار دولار أميركي سنوياً بحلول العام 2030.
من جهتها، تؤكد الكاتبة الصحافية فابيولا بدوي، في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن “مظاهرات اليوم ترتبط بتحديات اقتصادية وحياتية”، لافتة إلى أن الرئيس إيمانويل ماكرون فشل في تمرير هذا القانون خلال ولايته الأولى ويحاول الآن تمريره؛ لأنه يدعي أن زيادة سن التقاعد ستسهم في تمويل صندوق المعاشات، إذ سيتم استقطاع جزء من راتب الموظفين لصالح صندوق المعاشات.
وتقول إن ماكرون إذا أراد تمويل صندوق ما أو إعادة التوازن إلى ميزانية الدولة عليه أن يعيد الضريبة التي كانت على الثروات، والتي للمفارقة هو من أشار على الرئيس الأسبق فرانسوا أولاند برفعها عندما كان ماكرون يعمل مستشاراً اقتصادياً له، واستمر الرئيس الحالي خلال ولايته الأولى مصراً على عدم إعادة تلك الضريبة، وبالتالي عليه أن يعيدها لتمويل صندوق المعاشات، أما أن يكون التمويل برفع سن التقاعد فهذا مرفوض تماما.
وتشير فابيولا، في معرض حديثها لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أسباب رفض هذا القانون، مشددة على أن الأمر مرتبط بـ “مواجهة حياتية واقتصادية”، إذ أن الثقافة الغربية السائدة هي أن الحياة تبدأ بعد سن المعاش، حيث يتفرغ الشخص لحياته الخاصة والاستمتاع بها، أما الوصول إلى 64 عاماً فهذا عمر مرتفع بالنسبة للفرنسيين ومرهق جداً.
وتشير إلى أن الشباب يرفضونه كذلك، لأن مد سن المعاش يُحدث نوعاً من البطالة، ويحول دون تقلد الشباب المناصب إلى حد كبير وبشكل سريع. وتحذر الكاتبة الصحافية الفرنسية من مغبة استمرار تمسك الحكومة الفرنسية بمشروع القانون، لما لذلك من تبعات اقتصادية؛ على أساس أن هناك تهديداً بإضراب شامل وعام إذا ما تم الإصرار على تطبيق هذا القانون على العاملين في مصافي البترول وقطاع الكهرباء، وهذا الإضراب سيغرق البلاد ويكلفها المليارات، وسط مخاوف من الاتجاه إلى عصيان مدني، وفقاً لها.
وكانت النقابات المنظمة لهذه الاحتجاجات قد هددت في يناير الماضي بأنها ستصيب البلاد بشلل تام، إذ رفضت الحكومة أو الرئيس ماكرون التخلي عن هذه الإصلاحات، التي يرى أنها ضرورة لتجنب انهيار نظام التقاعد في بلد لديها أحد أسخى أنظمة التقاعد بين الدول الصناعية.
اكتشاف المزيد من جريدة الحياة الإلكترونية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.